«مذكرات فتوة» كتاب من تأليف الفتوة المعلم يوسف أبو حجاج عام 1927، أملاها فى فصول مسلسلة على «حسنى يوسف» صاحب ومحرر جريدة «صوت الشعب» التى كانت تصدر بحسب الظروف فى باب الخلق بجوار الكتب خانة ولها فرع بشارع الصنادقية بجوار الأزهر الشريف، وكان أول صدور لها مجموعة فى كتاب من 80 صفحة من ورق الجرائد الأصفر، بمقدمة للشاعر والكاتب صاحب الإمضاء والصيت خير الدين الزركلى، كما صدرت طبعتها الثانية فى ثلاثة أجزاء بمقدمة للكاتب محمد شفيق المصرى قبل أن يعثر كاتبنا الراحل صلاح عيسى بالمصادفة على الطبعة الأولى من المذكرات عند أحد باعة الكتب القديمة بسور الأزبكية عام 1971، ثم يقرر أن يحققها ليكون آخر الكتب التى يعمل على تحقيقها قبل رحيله عن عالمنا فى 2017.
الكتاب النادر الذى بين أيدينا والصادر عن الهيئة العامة للكتاب بتحقيق صلاح عيسى، يأتى فى 527 صفحة من القطع المتوسط ويشتمل على متن وأربع مقدمات أولها دراسة للمحقق بعنوان «صعود وانهيار تشكيلات الفتونة»، ويتلوها مقدمات كل من خير الدين الزركلى وحسين شفيق المصرى وحسنى يوسف الناشر وصاحب جريدة «صوت الشعب»، كما يشتمل الكتاب على الطبعات الثلاث للمذكرات، وهى الطبعة الأولى فى سبعة فصول بالهوامش فى 251 صفحة والقسم الثانى الذى يشتمل على ملخص الجزء الثانى من المذكرات، بحسب ما وجده صلاح عيسى فى الدوريات والفهارس التى ذكرت الكتاب، أما القسم الثالث فاشتمل على الجزء الثالث من المذكرات واستغرق الفصول من التاسع إلى الخامس عشر ومن الصفحات 287 وحتى ص 511.
«مذكرات فتوة»، يمكن تصنيفه بأنه من أوائل الروايات التى كتبت بالعامية المصرية الدارجة فى عشرينيات القرن الماضى، وهو زاخر بالأحداث السياسية والاجتماعية فى تلك الفترة، كما يمثل سجلا حافلا لأولاد البلد الجدعان المشاديد المعروفين بالفتوات، وعاداتهم وأخلاقهم والمفاهيم الغالبة عليهم، وكذلك طبيعة الحياة فى قاهرة العشرينيات من القرن الماضى تحت الاحتلال الإنجليزى وبعد اندلاع ثورة 1919 وبداية الوعى العام للشعب المصرى بمفهوم الحرية وضرورة الاستقلال، ورغم أن الهدف الأساسى للكتاب بحسب ناشره هو التسلية باعتباره «ألطف قصة مصرية فكاهية أدبية انتقادية ذات مواقف غريبة وحوادث مدهشة مكتوبة باللغة الدارجة وتوضح كيف تعيش طبقة العامة فى مصر وكيف تفكر، كل ذلك بأسلوب شيق يلذ للقارئ ويسترعى انتباهه».
إلا أن الكتاب الذى يحكى مواقف وطرائف من حياة بطله الفتوة يوسف أبو حجاج يضعنا أمام الوعى الفطرى للطبقة الشعبية من المصريين بضرورة امتلاك الحرية والدفاع عنها، كما يتجلى فى الفصل الثالث من الجزء الأول للمذكرات الذى يأتى بعنوان «يعيش سعد باشا زغلول العترة» والذى يحكى عن اكتشاف الفتوة يوسف أبو حجاج إرهاصات الثورة فى صدام التلاميذ والأفندية والموظفين بالإنجليز ومقاومتهم للاحتلال الذى يتعسف فى منح المصريين استقلالهم، وكيف انحاز الفتوة الملف بفطرته إلى صفوف أبناء بلده فى مواجهة المحتلين لدرجة قيامه بتنظيم مظاهرة حاشدة لمواجهة الإنجليز، واشتباكه بالفعل مع بعض الجنود واقترابه من خطر الاستشهاد بعد إطلاق الرصاص عليه.
الكتاب من ناحية أخرى يمثل سجلا للعامية الدارجة على ألسنة أبناء البلد والطبقات الشعبية فى بدايات القرن العشرين وكذا وسائل المواصلات ومجموعة القيم الاجتماعية السائدة، ومفهوم القانون العرفى المهيمن بين أوساط العامة، مما يمكن أن يكون قانونا حياتيا موازيا للقانون الرسمى، فالمؤلف الفتوة يفخر بقوته الجسدية وقدرته على مهاجمة أقرانه من الفتوات، كما يفخر بعدم هروبه من الخناقات ودخوله السجن فى قضايا الضرب والإصابة على اعتبار أن الفتوة المجدع إذا لم ينل الصيت والاسم من دخول السجن لا يكتمل سجله ولا تاريخه فى الفتونة، ويكشف يوسف أبو حجاج فى سرده لوقائع حياته كيف كانت حياة أبناء البلد بين المقهى والشطارة والفتونة والعمل القليل.
وعلى المستوى المهنى، يكشف الكتاب توجه الناشر وصاحب امتياز جريدة صوت الشعب ممثلا للصحافة الشعبية المصرية فى تلك الفترة وكيف كان توجهها ناحية تقديم الخدمة والترفيه بالدرجة الأولى، فهى مهتمة أساسا بتقديم كل ما يهم القارئ الذى تتوجه إليه من أخبار السلع والخدمات، بالإضافة إلى الترفيه بحسب مواضعات تلك الفترة وهى قراءة القصص الفكاهية التى تحمل العبرة والعظة إلى جانب خفة الظل، ونجده مثلا يخصص آخر ثلاث صفحات من الطبعة الأولى لكتاب مذكرات فتوة للدعاية عن كتاب يهديه للقراء بعنوان «مذكرات نشال خطير يدعى «النص» وهى المذكرات التى تتضمن جميع الأساليب التى كان يتبعها النشالون فى وسائل المواصلات آنذاك وفى الشوارع لسرقة المواطنين الغافلين، وبقدر ما تزخر هذه القصص بالمواقف والمشاهد والمصطلحات الغريبة تقدم توعية للقراء بكيفية الحذر من النص النشال وأمثاله، كما يروج صاحب الجريدة فى موضع آخر إلى كتاب آخر بعنوان «مذكرات متشرد»، يحكى عن هذه الطائفة وما يواجهونه من مصاعب ومواقف حياتية، باختصار نحن أمام قطعة حية من القاهرة منذ مائة عام تكشف كيف كنا وإلى أين وصلنا على مستوى العمران والتحضر وطريقة الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة