لا أدرى من أين أبدأ، لكنها دائرة مغلقة متشابكة خطوطها كل منها نتيجة للآخر، وما علينا الآن إلا الخروج الآمن منها لإنقاذ المجتمع والثقافة والهوية المصرية التى تلوثت وتغيرت وتبدل الكثير من ملامحها، ليتحول المجتمع إلى شعب التوكتوك.
و"التوكتوك" هنا ليس بمعناه الحرفى، لكنه مجازاً لحالة التدنى التى تسللت لتصيب المصريين تدريجياً بفعل فاعل خبيث بالعقود الماضية، تحديداً منذ أواخر ستينيات القرن الماضى وحتى يومنا هذا.
وإن تأملنا الصورة جيداً سنرى جلياً المتهم الحقيقى الذى يخفى وجهه ويستتر خلف السُتُر المختلفة الأشكال ذات المسميات المتعددة، ليدفع بها واحدة تلو الأخرى لبث السموم ونفخ الخبائث دون أن نرى له وجه.
فمنذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات قد فر عدد لا بأس به من أفراد جماعة الإخوان المسلمين من ملاحقة عبد الناصر ممن نجوا من السجون بعد كوارثهم المعتادة التى ارتكبوها بحق الوطن من عمالة وخيانة واغتيالات منذ بزوغ تنظيمهم على أرض مصر، كجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بصناعة وتمويل إنجليزى معلوم.
إذ استقر هؤلاء الفارين غالباً بالأراضى السعودية ووجدوا ضالتهم بالفكر الوهابى المتطرف، وتضاعفت ثرواتهم وتمكنوا من ترتيب أوراقهم جيداً ليعودوا تدريجياً بعد وفاة عبد الناصر وتوجيهات السادات بإتاحة بعض الوجود للإسلاميين، وإخراج الكثيرين منهم من السجون رغبة منه بإحداث حالة من التوازن بالمجتمع بين اليمين واليسار الذى قويت شوكته بهذا التوقيت.
وفى هذه الآونة وما قبلها كانت الجماعة قد دفعت ببعض تلامذتها ليشكلوا بعض التنظيمات الإسلامية، والتى كان أشهرها تنظيمى (التكفير والهجرة والجهاد)، ثم الجماعة الإسلامية والشوقيين والقطبيين وغيرها من المسميات والأوجه المتعددة لعملة واحدة مستترة تخفى نفسها عن الأنظار وتعمل فى صمت لتنتج الطحين دون أية ضجيج.
أما عن تأثر المجتمع بعودة العائدين من الأراضى السعودية فقد كان كبيراً متغلغلاً بالثقافة المصرية العريقة والهوية المصرية الصلبة، كالسم بالعسل، فقد بدأت الخطورة باصطحاب هؤلاء العائدين للكثير من المفردات اللغوية الغريبة علينا، لتقتحم آذاننا مفردات سعودية لسنا بحاجة إليها، إلى جانب اللافتات التى انتشرت بشكل سريع لتعلو واجهات المحال التجارية والصيدليات والألبان وغيرها مثل (الحرمين، مكة، إخوان كذا).
ثم توالت نفثات الشياطين تنتشر بغفلة منا ليتغير الشكل الحضارى الراقى والخلق السامى الذى تميز به المصريون الغنى منهم والفقير، الأرستقراطى منهم والشعبى، ويتحول إلى شكل آخر غريب علينا بداية من الزى الموحد الأسود كالنقاب واختفاء الأناقة التى لا تخل بالوقار والاحترام ليتم شحن البسطاء وغير البسطاء أحياناً بالأفكار المسمومة التى تحرم كل شىء وتهتم بالصغائر والخزعبلات وترتكز على التخويف والترهيب لتطيح بسماحة واعتدال ووسطية الإسلام كما اعتاده المصريين.
هذا إلى جانب تحريم الفنون التى كان لها الأثر الأكبر والأهم فى تشكيل وعى ووجدان المصريين والارتقاء بهم على مر العصور، وإلهائهم بدعاء دخول الحمام وتغيير مظاهرهم ومفرداتهم وتسميم أفكارهم والعبث بهوياتهم التى احتفظوا بها والتى لم يستطع عدو أو مستعمر أياً كانت قوته العبث بها.
ثم جاءت نهاية السادات على أيدى هؤلاء الذين حررهم ومنحهم الفرصة من جديد باغتياله كعادتهم التى لم يشتروها بل كانت أصيلة لديهم مؤصلة، كنتيجة متوقعة لتصرف أثبتت الأيام عدم محالفته الصواب.
ثم توالت واستمرت خططهم الشيطانية ومن اتبعهم بالعبث بالشخصية المصرية وإخراجها عن شكلها ومضمونها لتتحول شيئاً فشيئاً من التحضر والرقى إلى التراجع والتدنى الفكرى والثقافى والفنى والدينى، لينتهى بها الأمر منذ أقل من عقدين من الزمان إلى الاقتراب من الثقافة البدوية الوهابية المتشددة، والتى دون شك أصابت المجتمع بالتخلف الفكرى، ونشرت الجهل والبياءة التى انتهت بنا إلى مجتمع التوكتوك.
فقد كانت صدمتى الأولى عندما دخلت ابنتى جامعة القاهرة بأهم كليات القمة الاقتصاد والعلوم السياسية والتى كنت أدرس بها ولكن بكلية الإعلام، وكانت تعانى من تدنى المستوى الاجتماعى بشكل عام فى الجامعة، ولم أكن أصدقها وكنت أصر على أن جامعة القاهرة وتحديداً كليات القمة تضم أرقى فئات المجتمع، وأعنى بأرقى علمياً وثقافياً وخلقياً وليس ماديا.
وكانت المفاجأة بعد أن زرت الجامعة بإحدى الفعاليات وأصابنى بالذهول والحزن على ما آلت إليه أحوال المجتمع المصرى من تراجع فى كل شىء.
وكأن طالبات الجامعة اللاتى كن نموذجاً للأناقة والتحضر والرقى اتشحن بوشاح واحد غير محدد الملامح يتسم بلمسة شعبية متدنية لا دخل للدين والتحشم بها على الإطلاق بل هى نفحة غريبة علينا مستوردة من أناس وثقافات لا تشبهنا ولا نشبهها على الإطلاق، هذه الصورة التى رأيتها بالجامعة ليست إلا نموذجاً مصغراً لما أصاب المجتمع المصرى كله بفعل شياطين الإنس ذوى النفس الطويل قبل أن تنكشف وجوههم وتتضح حقائقهم أمام الجميع ليحدث ما لا يحمد عقباه من جديد.
وللحديث بقية عن "الفكر المتطرف وتراجع المجتمع وشعب التوكتوك".