شاهدت فيلم "الممر" مرتين، الأولى بصحبة زوجتى وأولادى، والثانية بقصر المنارة بدعوة من إدارة الشئون المعنوية.. رصدت فى المرتين كم التصفيق والإنبهار بالفيلم لدى كل من يشاهده، خاصة الشباب وصغار السن، وأكتب هنا ليس لتقييم الفيلم فنياً فهناك من هم أقدر منى على ذلك، ولكن للوقوف عند لحظة تاريخية قد تنطبق عليها مقولة "التاريخ يعيد نفسه".
هنا التاريخ يعيد نفسه لكننا تعلمنا من أخطائنا ولم نعد تكرار سيناريو الانكسار رغم تكرار الظرف التاريخى وبقسوة أكثر مما كانت عليه.
فيلم "الممر" يحكى لحظات تاريخية تدعو للفخر والاعتزاز، فمن رحم الانكسار ولد الانتصار، الفيلم يرصد المرحلة الأصعب فى تاريخ الدولة المصرية وهى نكسة 1967.
أكثر من 10 شخصيات رئيسية من طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة ركز عليها الفيلم، ونجح الفيلم باقتدار فى إظهار الفوارق بين كل شخصية والأخرى، وأشاد الجمهور بالدقة فى إظهار تفاصيل تلك الشخصيات بدقة من خلال الملابس وقصات الشعر وكذلك اللهجة المختلفة لكل شخصية، وصولاً لأداء أبطال العمل المبهر، فهو عمل يجسد حالة سينمائية مختلفة عن السائد ويجب أن تستمر، ويكفى أنه العمل الوحيد الذى غرّد خارج السرب منذ عقود، وطالما طالبنا المسئولين فى الدولة والمهتمين بصناعة السينما بتقليب صفحات البطولات والتضحيات خلال صراعنا العسكرى مع إسرائيل الممتد من عام ١٩٤٨ وحتى انتصار أكتوبر العظيم فى ١٩٧٣، لم يكن يسمع لنا أحد، إلا أنه أخيراً تمت تلبية النداء بفيلم يفوق التوقعات وأعاد إلينا الثقة فى أنه بالإمكان إنتاج أفلام جادة وجذابة، وتشد المشاهد من أول مشهد حتى النهاية.
في "الممر" أبدى قائد الكتيبة الرائد «أحمد عز» رفضه تسلم مجموعة من المجندين يرتدون الجلاليب (يتضح من مظهرهم أنهم غير مدربين وغير متعلمين) جاءوا إلى وحدته قبل الحرب بأيام، من دون أى تدريب أو تجهيز- كانت شخصية "الضابط المصرى" مكتوبة بحرفية فهو متحمس وقوى وغيور على وطنه ويتحرق شوقاً للثأر من الهزيمة، وأيضاً مثقف ويجيد العبرية بطلاقة ويرد على الضابط الإسرائيلى فى كل الموضوعات من أول الأرض إلى الدين، وتظهر حالة من التخبط والإرتباك فى الجيش فى مشاهده الأولى وهو ما يعد ولأول مرة توجيه نقد مباشر لأداء القيادة فى مصر خلال حرب يونيو ١٩٦٧، خصوصا القيادة العسكرية، ويحملها مسئولية الهزيمة وليس الجنود أو الضباط الذين كانوا متمسكين بالقتال حتى اللحظة الأخيرة، لولا أوامر الانسحاب بالإضافة إلى انشغال جزء كبير من القوات فى حرب أو مستنقع حرب اليمن. الفيلم كسر "تابوه" نقد الرئيس عبد الناصر كقائد سياسى للدولة، وأكد انه كأى قائد له ما له وعليه ما عليه، وهنا لاحظ أيضاً التاريخ وهو يضع مصر أمام نفس السيناريو.. يرفض الرئيس السيسى زج قواتنا المسلحة فى الحرب مع الحفاظ على حقنا فى حماية مضيق باب المندب لارتباطه بالأمن القومى المصرى، بالإضافة إلى ما قام به الرئيس من تطوير وتحديث لقواتنا المسلحة بجميع أسلحتها المختلفة، والجهد الذي تقوم به قواتنا المسلحة فى التدريب والاهتمام بالعنصر البشرى حتى وصلنا إلى أن الدول الغربية هى التى تبذل جهداً لنوافق على عمل مناورات معها أو تدريب مشترك.
الفيلم سيدخل تاريخ السينما المصرية، فيما يتعلق بإعادة بث الروح الوطنية فى نفوس الشباب، وتعريفهم بجوهر الصراع مع العدو الإسرائيلى الذى نجح "إياد نصار" فى خطف الأنظار إليه في دور الضابط الإسرائيلى قائد المعسكر الذى يتلذذ بإذلال الأسرى المصريين وهدم روحهم المعنوية وقتل بعضهم، وحتى عندما وقع فى الأسر أظهر الشخصية البراجماتية النفعية التى تجيد كل أنواع الخداع، وفهمه للشخصية العربية ووصل أننا "كرهناه" في الفيلم، أما "أحمد فلوكس" الذى قدم أجمل أدواره وكان يعبر بنظرات عيونه وطبقات صوته ولغة الجسد ببراعة فى اكتشاف جديد لموهبته كنجم سيسطع في سماء الفن المصرى، قام بدور الغالبية العظمى من ضباط قواتنا المسلحة الذين يملكون الحماس والتضحيات، وعبّر عنهم بمنتهى الاحترافية، وهذا ينطبق على "محمد فراج وأحمد صلاح حسنى ومحمد جمعة" الذين أثبتوا أنهم "مجرمو تمثيل"، حتى أصحاب الأدوار الصغيرة مثل هند صبرى وأسماء أبو اليزيد والقدير شريف منير الذين أبدعوا فى أدوارهم بصدقهم، وهناك أيضاً جنود خلف الشاشة، فلولا موسيقى عمر خيرت ما كان هذا النجاح للفيلم، بالإضافة إلى الصوت، لكن اللافت للنظر الأداء الحركى لجميع الفنانين المشاركين فى المشاهد الحربية والتنظيم الجيد فى المعارك الحربية، وهو ما كنا نفتقده فى السابق، الفيلم امتلك جميع عناصر النجاح من سيناريو وحوار وإخراج وأداء عالمى لكل الممثلين وموسيقى تصويرية تليق بالحدث.
نعم سجل الجيش المصرى ومازال أنصع صفحات المجد والفخر والبطولة والتضحية فى حرب الاستنزاف فى معارك كتبها هذا الجيش بدماء أبنائه الأطهار فى أرض قدس الأقداس.
نرجع إلى إعادة التاريخ لنفسه لنجد أن الأرض نفسها تشهد تضحيات من ابناء قواتنا المسلحة لكن هذه المرة المعركة أشرس وبأسلوب مختلف، فالعدو هنا استفاد من خبرات قتاله معنا كما استفدنا من تجاربنا السابقة، فالعدو يعلم تماماً أنه لن يستطيع كسر الجندى المصرى والتغلب عليه فى معركة مباشرة على أرض الميدان، وهنا أتى لنا على أرض الفيروز بمجموعة عصابات اغلبها من الداخل تستحل التجارة بالدين وتستغل ما تستطيع من المجرمين تجار المخدرات والسلاح وبعض الأجانب مدعومين للأسف من دول المفترض أنها شقيقة ومدربين في دول المفترض أنها تكون إسلامية أو صديقة، هنا الجيش المصرى يحارب عدواً غير تقليدى يحارب منتخباً للمجرمين ومنتخباً لمخابرات دول لا تريد الخير لنا، وتريد تشتيتنا للانقضاض على ثرواتنا فى البحر والبر.
"الممر" لفت النظر إلى النوبة والصعيد وبدو سيناء والتهميش الذى حدث لهم عبر عقود من الزمن، رغم أن مصر وقتها كان عدد سكانها نحو ٣٠ مليوناً وليس أكثر من ١٠٠ مليون كما هو الحال الآن، كما أن مصر لم تكن محملة بأعباء كما هو الحال الآن إذ تدفع نحو ثلث دخلها القومى فوائد ديون من فترات سابقة (مع العلم بأن تلك الديون اقترضتها الأنظمة السياسية السابقة فقط لتغطية تكلفة الدعم المقدم للمواطنين ولم تدخل فى تكلفة أى مشروعات تنموية) ومع ذلك كلنا وفى أى وقت "تحت أمر مصر"، وبدو سيناء يقومون بدور البطولة ويقدمون التضحيات عبر كل العصور، لكن هنا لابد من الإشارة إلى أن الدولة تعمل الآن على معالجة هذه التشوهات بمشروعات تنموية بالمليارات فى كل هذه المناطق وخاصة سيناء التى يروجون عنها شائعات دخول بعض أرضها فيما يسمى "صفقة القرن" وهو ما كان فيلم "الممر" إحدى أدوات نفى هذه الشائعة.