إذا افترضنا أن السيولة التى أنتجتها الفوضى وتطوُّرات الأوضاع فى دول الربيع العربى، أغرت الدوحة، ووراءها أنقرة وطهران، بالتدخُّل فى تلك الساحات والتلاعب بتركيبتها، بغرض إرباك المؤسَّسات، أو تعزيز أسهم بعض الأجنحة على حساب باقى المكونات الاجتماعية والسياسية، فإن تلك الفرضيّة لا تتوفَّر فى بيئاتٍ أخرى نشطت فيها الإمارة، بمعاونة الأذرع التركية الإيرانية أو توجيهاتها. ومع الجزم بأن تلك السيولة لا تُبرِّر استباحة المحيط الإقليمى، أو وضعه على برميل بارود تُطوِّقه النار من كلّ جانب، فإنّ المُبرِّرات تنتفى تمامًا بالنظر إلى مواقف قطر تجاه السعودية والإمارات، سواء داخل البلدين، أو على المحاور المُتقاطعة مع مصالح كلٍّ منهما ودوائر أمنها القومى!
لا يمكن استبعاد أن التغلغل ضمن النسيج المُلتهب فى تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق، كان يشتمل ضمن أهدافه على حصار المحيط الإقليمى المُساند للرياض و«أبوظبى»، فى ضوء شراكة البلدين لتلك الدول سياسيًّا واقتصاديًّا، واستثماراتهما المباشرة فيها، واستقبالهما آلاف الوافدين منها، سواء فى زيارات السياحة والشعائر الدينية الموسميّة، أو للعمل والإقامة الدائمة، ما يعنى أنّ أىّ شحنٍ أو خشونة أو تفسُّخ فى نسيج تلك المجتمعات، سينتقل بالضرورة إلى الجارتين المُستقرَّتين. لكن فضلاً عن هذا الاستهداف غير المباشر، فقد نشطت ماكينة الإمارة وحليفيها على أراضى البلدين، وعملت على تأجيج التوتُّرات من بوّابة الخلافات المذهبية، أو تحت راياتٍ مُستجلَبةٍ من الخارج!
فى السعودية، كثَّفت قطر تواصلها مع حركة الصحوة ورموز التيار المُتشدِّد، عبر إغراءات مالية وإعلامية، وعمليات احتضان وتجنيس، وهو ما كشفه الداعية البارز عائض القرنى أخيرًا فى اعتذار مُعلَنٍ للشعبين السعودى والعربى، وكان غرض «آل ثانى» من ذلك المسار تقويض نظام المملكة والأسرة الحاكمة، وتغذية ماكينة التطرُّف الوهابىّ، لابتلاع أى جهود إصلاحية تبذلها الرياض، إلى جانب وضعها أمام تحدٍّ أمنىّ دائم، ينفتح جناحاه على مُجتمع عصرىّ ينزع إلى المدنيّة والتحرُّر، تُقابله سُلطويّة دينيّة تحُدّ من قدرات الدولة وإمكانات تحديثها وإعادة هيكلة مؤسَّساتها.
الأخطر أن الإمارة نشطت فى المنطقة الشرقية، البالغة 540 ألف كيلومتر مربع، تقارب 28% من جغرافيا المملكة، بساحل يمتدّ 700 كيلومتر على الخليج العربى، وكثافة سكانية تناهز 5 ملايين نسمة، 40% منهم على المذاهب: الاثنى عشرية والإسماعيلية والزيدية الشيعية، وفضلاً عن اشتمالها على عدد من أهم المحافظات والمدن (الدمّام/ الخُبر/ الأحساء/ القطيف/ حفر الباطن/ الجبيل/ الخفجى/ رأس تنورة... وغيرها)، فإنها تُمثّل قوّة اقتصادية ضاربة، بمقوِّماتها السياحية والصناعية، واحتضانها أكبر الواحات الزراعية فى العالم «واحة الأحساء»، وعددًا من أهم منشآت التكرير وموانئ النفط العالمية، والأهم أنها تنتج قرابة 10 ملايين برميل يوميًّا، تتجاوز 90% من إنتاج المملكة.
بدأت قطر تحرُّكها بالاتصال بأتباع حسين القلاف وحسن الصفار (أشعلا انتفاضة المحرم 1979) وبواقى قادة وأعضاء منظمة الثورة الإسلامية فى شبه الجزيرة، والحركة الإصلاحية التى فكَّكها مُؤسِّسوها عقب لقاء الملك فهد 1993. كان ذلك بعد أحداث نجران بالعام 2000. وشملت الاتصالات رجال الدين: توفيق العامر وعلى الوايل وعبدالعزيز الوهيبى ونمر باقر النمر (أُعدم 2016 فى قضايا إرهاب وتخابر وفتنة طائفية) والناشط محمد الودعانى، وقاد التنسيق إلى احتجاجات 2011، وإطلاق ما عُرف بـ«حزب الأمة الإسلامى» وحركة حسم، إضافة إلى أحداث عنف فى العواميّة والقطيف وأبها وبريدة وصفوى وأم الحمام، واستغلَّت قطر قُربها الجغرافى من المنطقة فى إمداد قادة الحِراك بتمويلات ولوجستيّات وأجهزة اتصال، وهو ما استشعرته المملكة وقتها، وترجمته تصريحات وزير خارجيتها سعود الفيصل: «التغيير يتحقَّق من خلال المواطنين لا من خلال أصابع أجنبية، وسنقطع أى أصبع يمتدّ إلى المملكة».
أما الإمارات، فقد واجهت تحرُّشًا داخليًّا عبر خلايا إخوانية مدعومة من الدوحة، أعلنت عن ثلاث منها فى يوليو وديسمبر 2012 ويناير 2013، والأخيرة ضمَّت 30 مُتّهمًا موّلوا الجماعة فى مصر بملايين الدولارات، منهم 20 مصريًّا تراوحت مُدد إقامتهم بالإمارات بين 5 و30 سنة، وشكّلوا مكاتب إدارية للتنظيم فى عجمان والشارقة ودبى وأبوظبى، وجمعوا الزكاة والتبرُّعات تحت لافتة لجان الإغاثة والبِرّ. و10 إماراتيّين ضالعين فى قضية رابعة عُرفت بـ«التنظيم السرِّى»، ضمّت 69 متهما أدانت المحكمة الاتحادية العليا 48 منهم فى يوليو 2013، وصادرت منهم 2.5 مليون درهم ومزرعة ومبنيين فى الشارقة، و20% من رأس مال مدرسة اسمها «السلام الإنجليزية» بأبوظبى، وأغلقت 3 مراكز بحثية و7 مواقع إلكترونية.
تنوَّعت الاتهامات بين إفشاء أسرار الدولة، وجمع أموال من دون تصريح، واختلاس صور ومعلومات حسّاسة، والاتصال بأطراف خارجية تُهدِّد أمن الدولة، وكشفت الخيوط المُتلاحقة وقائع أخرى، أبرزها قضيّتا «المُدوِّن الخليجى»، و«فجر ليبيا» اللتان ضمّتا 4 مُتّهمين بينهم أمريكى، حوّلوا 11 مليون درهم وشحنوا مُدرّعات تركيّة ومناظير وواقيات رصاص من الدوحة لميليشيات طرابلس وبنغازى، وكل تلك القضايا أكّدتها تحقيقات كويتية موازية، بحسب ما قاله رئيس الوزراء جابر المبارك فى جلسة لمجلس الأمة: «نعم.. هناك تمويل يطلع من الكويت»، بينما أشار النائب عبدالله التميمى بوضوح إلى ضلوع قطر فى الأمر!
لم ينحصر استهداف «آل ثانى» للسعودية والإمارات فى إثارة القلاقل الداخلية، أو تشكيل الخلايا ودعمها، وإنما امتدّ ليشمل مصالح البلدين فى المحيط الإقليمى، ليس فقط من خلال الترصُّد ومحاولة تقويضها أو تعطيل عوائدها، وإنما بالنَّيْل المُباشر من الأرض والممتلكات والجيوش والمواطنين، وكانت تلك أفدح المحطّات وأكثرها انحطاطًا، عندما اتّضح أن الدوحة ضالعةٌ بشكل عميق فى قصف مكّة بالصواريخ الحوثيّة، ووالغةٌ فى دماء عشرات الجنود الخليجيّين، وأنها ذهبت مع الأشقّاء إلى اليمن، لتكون مُرتزِقًا رخيصًا عند إيران، وفى ميليشيات عبدالملك الحوثى!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة