لكل كاتب وأديب عمل يظل مرتبطًا باسمه دائمًا، ويظل أيقونته الخالدة فى ذاكرة الأدب والجمهور معًا، فكما ارتبط يحيى حقى بـ«قنديل أم هاشم» وفتحى غانم بـ«الجبل»، فكانت رواية «شىء من الخوف» أيقونة أعمال ثروت أباظة، التى ظلت مرتبطة باسمه وخلدت ذكره.
ثروت أباظة «15 يوليو 1927 - 17 مارس 2002»، كان واحدًا من أهم كتاب الرواية المصرية، ينتمى لأسرة أدبية برز فيها الشاعر عزيز أباظة، والأديب فكرى أباظة، ودسوقى أباظة، ارتبط بصلة بالعديد من القامات الفنية والأدبية، وكان له مواقفه، فغير تعرضه للهجوم بعد تحويل روايته «شىء من الخوف» لفيلم بحجة الإساءة للسلطة، وهى حكاية شهيرة يعرفها كل من شاهد الفيلم القديم، لكن أيضًا له مواقف، لعلها ذكر العديد منها فى مذكراته «ذكريات لا مذكرات» الصادرة عام 1988، فى 167 صفحة من القطع المتوسط «حجم الكتاب».
كان «أباظة» فى السنة الرابعة بمدرسة فاروق الأول، وكان الأستاذ ضاحى، وهو مدرسة اللغة العربية، قد طلب من الطلاب أن يكتبوا موضوع إنشاء، وكتب «ثروت» الموضوع واستعمل فيه فعل، تساءل على وزن تفاعل، فإذا بالأستاذ ضاحى يضع خطًا تحت الفعل، ويقول تساءل على وزن تفاعل وتفاعل أى تبادل الشىء بينه وبين إنسان آخر.
لكن ثروت لم يوافق ما قاله المدرس، وعندما ذهب إلى المنزل كشف فى القاموس، فوجد الأستاذ مخطئا خطأ فادحا، فكتب كلمة عن خطأ الأستاذ، وكان فى ذلك الحين أنعم عليه الله، كما يروى هو بصداقة من نوع عجيب هى مزيج بين الأستذة والصداقة فى وقت معًا، فقد كان الأستاذ العوضى الوكيل، الشاعر الكبير، من الذين يحبهم والده حبًا جمًا وكان يزورهم على فترات، وفى إحدى المرات طلب والده من الأستاذ العوضى أن يستقدم مدرس لغة إنجليزية، ورشح لهم الأستاذ عثمان نوبه.
ومنذ اللقاء الأول، يروى ثروت أباظة، كيف شعر كل منهم أنه قريب قربا لا يكون إلا بصداقة سنوات طوال، وكان الأستاذ عثمان نويه قاضيا شرعيا زميلا للأديب أحمد أمين، فأطلع ثروت الأستاذ عثمان على ما كتبه، وطلب منه أن ينشر ذلك فى مجلة الثقافة، وكان عمره حينها ستة عشرة عامًا، وبالفعل أخذه إلى مسؤول المجلة وكان حينها الأديب الراحل أحمد أمين، وعرضه عليه، وحين قرأها قال لعثمان: «أهى لمدرس زميلك؟»، فتردد عثمان قليلا وقال إنما لمحام صديق، وفوجئ ثروت بالكلمة تنشر، وقد مهرها بتوقيع تلميذ قديم واتخذ لها عنوانا «تصحيح أوراق».
ورغم أن الكلمة حذف بعضها، لكن ثروت لم يفرح بظهور كتاب له ولا حتى كتابه الأول «ابن عمار» قدر فرحه بنشر هذه الكلمات الصغيرة فى باب البريد، وبتوقيع لا يحمل اسمى.
أحمد أمين، اختصر بعض الكلمات من كلمة ثروت أباظة الأولى، حين كان يعتقد أنه محام، ولكنه منذ أن عرف بأنه تلميذ لم يضع قلمه فى أى من المقالات قط، وتوالى نشره لمقالاته، حتى إنه كان ينصحه بقراءة كتب التراث، ومنها العمدة لابن رشيق والأمالى لأبى على القالى، وغيرهما.
فى بداية شبابه، وبينما كان لايزال طالبا فى التوجيهية، ظهرت رواية العباسية، تأليف عزيز باشا، وكان أنعم عليه الملك برتبة الباشوية تقديرا لشاعريته وبمناسبة صدور رواية العباسية، وأعجب بها ثروت أباظة، لكن الأديب الكبير يحيى حقى كتب عنها فى مجلة الثقافة مقالة يرى «أباظة» أنها كانت غاية فى العنف، حيث هاجم الرواية وهاجم عزيز باشا بضراوة أذهلته، فقرر «ثروت» أن يرد بمقال عليه، ويقول عن ذلك القرار: «الشباب اندفاع وتهور فقد كنت فيما كتبت قاسيا غاية القسوة».
أرسل صاحب «شىء من الخوف» المقال إلى مجلة الثقافة، ولم ينقض يومان حتى هاتفه أحمد أمين، وشعر أديبنا الراحل بالرهبة، من أن يحدثه أحد قامات الأدب فى العالم العربى على التليفون، حيث جاءه صوته الطيب البسيط الهادئ، كما يصفه، وقال: «أكلمك كأحمد أمين الوالد، لا أحمد أمين رئيس تحرير الثقافة الجديدة، مقالتك فى الرد على يحيى حقى فى المطبعة فعلا، ولكننى أرجوك أن تخففها، فإن الرجل فقد زوجته منذ قريب ولا أحب أن تسىء إليه وهو فى حالته هذه، إن رأيت أن تستجيب لرجائى أكون شاكرا، وإن رأيت أن تبقى المقالة كما هى فهى فعلا فى المطبعة»، فرد ثروت أباظة فى إذعان سريع ودون ريث تفكير: «أمرك يا سعادة البك»، وبالفعل جلس ليكتب المقال مرة أخرى لكن دون هجوم، وذهب إلى مقر المحجلة بشارع كرداسة دخل إلى المطبعة، فوجد مقالته فعلا فى المطبعة، فطلب استبدالها، كما طلب منها أحمد أمين.
كان الراحل ثروت أباظة، على صلة صداقة بالأديب العالمى نجيب محفوظ، وبدأت تلك العلاقة، حينما كان والد الأول وزيرا للأوقاف، وذلك فى وزارة إسماعيل صدقى عام 1946، وكان نجيب محفوظ حينها سكرتير الوزير لشؤون مجلس الأوقاف الأعلى، وكان ثروت عكاشة قد أصبح فى الجامعة، وهكذا كان يستطيع أن يذهب إلى الوزارة أغلب أيام الأسبوع، وازدادت صلته بنجيب.
وكان والد صاحب «شىء من الخوف» يقرأ روايات نجيب، وكان معجبا به كل الإعجاب، ومرت السنوات، وحين يوم كان يتمشى مع الأديب العالمى، وكان فى عام 1954، وكان يحث ثروت صاحب «الثلاثية» على الزواج، ولم يكن يعلم أنه متزوج بالفعل، حتى قاطعه محفوظ قائلا: «لقد رفعت دعوى على وزارة الأوقاف»، فقال له: «لماذا»، فقال:«إن لى درجة متأخرة منذ عشر سنوات»، فصمت ثروت قليلا وهو يفكر، ثم قال: «لقد كنت مستحقا لهذه الدرجة وأبى وزير»، فقال نجيب: «نعم»، فرد عليه: «ومع كل الصلة التى بينى وبينك وزرتنى فى البيت، وطالما أخبرتك أن أبى معجب بك ولا تخبرنى أنك مستحق لدرجة يستطيع أبى أن يمنحها لك بجرة قلم»، فرد صاحب نوبل فى الآداب عام 1988، فى عدم مبالاة وفى ابتسامة: «هل كنت أعرفك من أجل أن تسعى لى فى درجة، أترضى لى هذا»، وهكذا كان نجيب محفوظ إنسانًا لا نعرف له شبيهًا بين الناس كما يراه ثروت عكاشة.
ويكشف الكاتب الكبير ثروت أباظة، موقف آخر مع الأديب العالمى، حيث إنه أثناء لقاء بالأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، فى مقهى عرابى بميدان الجيش بالعباسية، مع الحرافيش من أصدقائه، وأثناء الحديث فى الشؤون السياسية، قال «أباظة» لنجيب محفوظ:«نجيب بك، إن أحدًا لم يتكلم حتى الآن فى شرعية حكم الطاغية»، فصمت نجيب لحظات ثم قال «فكرة جيدة» ليرد عليها الأول «ربما حاولتها».
ويوضح الكاتب «وما لبثت الأيام إلا وجدت نفسى أميل كل الميل أن أرمز إلى الشرعية بالزواح، وهكذا كان لابد لى أن أقرأ الفقه على المذاهب الأربعة، وأركز فى قراءتى على عقد الزواج، فوجدت أبا حنيفة وهو الذى نطبق مذهبه فى أحوالنا الشخصية يقول إن الفتاة إذا لم تعط الوكالة لمن يزوجها يكون الزواج باطلاً نسبيًا، والبطلان النسبى يختلف عن البطلان المطلق».
ويتابع: «فالطلاق النسبى يمكن أن يزول ويصبح العقد صحيحًا إذا زال سبب البطلان أما البطلان المطلق فلا يصح أبدًا»، ويكمل: «ويقول أبو حنيقة فى حالة زواج البنت بتوكيل باطل: يزول البطلان إذا عادت البنت وقبلت الزواج فإنه فى هذه الحالة يصبح زواجًا صحيحًا خاليًا من البطلان».
ويوضح: «وكتبت رواية «شىء من الخوف» معتمدًا على هذه القاعدة الشرعية حتى فرغت منها وكتبها عى الآلة الكاتبة».
ويروى «أباظة» عن موقف عن كوكب الشرق أم كلثوم، حيث كانت صديقة مقربة من عائلة الأديب الراحل، وفى ذات يوم كانت فى زيارة خاصة لمنزل العائلة فى قرية غزالة، إحدى قرى مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، وكان «ثروت» فى العاشرة من عمره، فاجتمع وهو وأسرته حول كوكب الشرق، والتى بدأت فى الغناء دون أن يطلب منها أحد، حيث كانت ترى بحريتها وكأنها فى بيتها.
وقال ثروت أباظة: «صدحت أم كلثوم فى المنزل، دون موسيقى، فقط نغمات صوتها ترتل على أجراس الكون لتصل إلى السماء، حتى شعر من حولها وكأنهم انتقلوا إلى عالم سماوى وأصبحوا يعتقدون كأن صوتها يأتى من السماء».
وتابع «أباظة» لكن إذ بكوكب الشرق، تتوقف فجأة عن الغناء، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتبدأ فى قراءة القرآن الكريم، يقول «أباظة» عن ذلك: «الملائكة فى هذه الساعات حولنا والظلام الذى يلف الكون أصبح نورا إلهيا ما شهدنا له مثيلا من قبل ولم نشاهد له مثيلا بعد»، ظلت هذه المعجزة الربانية فى ترتيل آيات الذكر الحكيم، حتى مطلع الفجر، فماذا كانت نهاية تلك الليلة الربانية.
وأضاف: «عند مطلع الفجر، أدركت أم كلثوم بأنه قد شق اليوم الجديد، فإذ بها تقوم ويقوم حولها من المنزل، وتخرج إلى شرفة البيت، وبأجمل صوت قد تسمعه، أذنت كوكب الشرق لصلاة الفجر، ورغم أنها فى منزل يبعد عن بيوت القرية بمسافة كيلومتر، إلا أن أهل القرية استيقظوا على صوت السماء وأخذت تتقاطر منهم أمواه الوضوء ووقفوا صفوفا يستمعون إلى أجمل أذان سمعوه فى حياتهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة