كنا نقول إن أمجد ناصر وجه سفينته إلى بحار السرد العميقة، وهناك لن تفلته السيرينات أو النداهات بسهولة ليعود إلى أرض القصيدة التى صال فيها وجال، كيف، وأحدث رواياته «هنا الوردة» تحقق ذيوعا وانتشارا وتدخل القائمة الطويلة لقائمة بوكر العربية؟ كيف، وآخر دواوينه الشعرية مغامرة فى السرد أيضا، أو ما وصفه هو بقصيدة الكتلة، «حياة كسرد متقطع» منذ نحو خمس عشرة سنة، وفيه يستغرق كلية فى تدريب نفسه على القبول بنص سردى بالكامل مغرق فى نثريته القصصية، وإن كان مفتوحا على المفارقة الشعرية والتقاط المأزق الإنسانى والاندهاش الدائم الذى يميز عين الطفل والشاعر.
كنا نقول إن صاحب «خبط الأجنحة» و«فى بلاد ماركيز» يغامر بحفر تاريخ لنفسه فى السرد العربى مزاحما الكبار، بعد أن ضمن لنفسه موقعا بارزا فى القصيدة العربية الحديثة، ومنذ ديوانه الأول الذى جاء تفعيليا «مديح لمقهى آخر -1979»، كان صوت أمجد ناصر لافتا مسموعا فى القصيدة العربية بنزعته البدوية وأطيافه الجديدة على النص الشعرى وإيمانه بمفهوم الشاعر العضوى الذى لا تنفصل عنده القصيدة عن الحياة بحمولتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، كما لا تنفصل عنده القصيدة عن المغامرة نفسها والترحال لأرض الأسئلة والاكتشافات، فتوالت أعماله الشعرية فى ىسياق قصيدة النثر: «منذ جلعاد»، «رعاة العزلة»، «وصول الغرباء»، «سُرَّ من رآكِ»، «مرتقى الأنفاس» و«حياة كسرد متقطع» الذى أحدث جدلا كبيرا فى الحياة الثقافية، حول اندغام الشعر بالنثر وسطوة السرد الكامل على سياق القصيدة التى يراهن الشاعر فيها على التوتر الكامن فى صورتها الكلية وانفتاحها على الشعر من زاوية الرؤية وما يبقى على أذهاننا بعدما ننتهى من قراءتها.
وها هو أمجد ناصر يفاجئنا كما يفعل كل مرة، ولكنها مفاجأة مزدوجة، فهو فى ديوانه الجديد «مملكة آدم - 2019» الصادر عن دار المتوسط فى 82 صفحة من القطع الوسط، يغادر المياه العميقة للسرد الروائى عائدا إلى خليج القصيدة، كما أنه يغادر قصيدة الكتلة المتماهية مع السرد النثرى الخالص ليعود إلى الينابيع الأولى للشعر، النشيد الملحمى الصافى، والصوت الرسولى والقضية الكبرى والانهمام السياسى والاجتماعى والغنائية العذبة وأحكام القيمة داخل النص نفسه ويا لها من مفاجأة.
يكتب أمجد ناصر الجحيم الذى نعيشه فى سوريا، يكتب القتل والمذابح والحرب الأهلية واللامبالاة والقسوة والوحشية والإنسانية المغدورة والصمت المتواطئ والانحطاط إلى درك لا يسمى، يكتب المأساة كاملة بدون محسنات جمالية، فهو رسول الضحايا الذين قضوا دون أن يقولوا لقاتليهم أنتم مجرمون، يقول: «لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيثُ لا يصلُ الأنصارُ أو الشُّهُودُ".
"جاءتْ عرباتٌ تجرُّهَا كائناتٌ، نصفُها بشرىٌ ونصفُها حمارٌ وحشى.
رمونى مع الذين قضوا نحبَهُم...... "
اسألُوا مَنْ أنا؟ نسيتُ، بالضبطِ، مَنْ أكون، فقلتُ لهم: رسولٌ! جفلُوا. ليست هيئتى لرسول، ولا يُرمَى الرُّسلُ، كيفما اتّفق، فى عرباتِ الموتى. تغيّرتْ ملامحُهُم، فقلتُ لهم:
لستُ رسولاً إلهيًا، فلا أقوى على ذلك، ولكنْ، بما أننى وصلتُ إلى
هنا، ولم يفعلْ ذلك حَىٌ قبلى، ربّما شاعران، أحدهما يُسمّى المعرِّى،
والثانى يُدعى دانتى، فأنا رسولُ الذين ظلّوا فى بلاد البراميلِ والسارينَ فى مملكةِ آدم التى ترون من مرتفعاتِكم البعيدةِ هذه اللهبَ الذى يتصاعدُ من أطرافِها، والدخانَ الذى يلفّها، والروائحَ التى تزكمُ الأنوفَ ..ألا تشمّونها؟".
نعم، يرسم أمجد ملامح الجحيم الأرضى الذى نعيشه ونتابع فصوله من حولنا، طبقات سبع مثلما هو فى جحيمم دانتى وجحيم المعرى صاحب رسالة الغفران، ولكن الجحيم فى ملكة آدم واقعى متحقق، نراه رأى العين ونكتوى بنيرانه ونعاين أهواله، لا مجال للخيال فيه، ولا هو من صناعة وتصور الشاعر، ولا علاقة له بالمقدسات، إنما هو إدانة من الشاعر الغاضب المكلوم لجرائم المجرمين والقتلة والسفاحين ومغتصبى الأطفال وباقرى بطون الحوامل والمتاجرين بدماء الأبرياء وقاصفى المدن على رؤوس سكانها ومدمرى البلاد من أجل سلطة زائفة وزائلة.
يغامر بنا أمجد ناصر هذه المرة بالعودة مباشرة إلى الشاعر النبى المعبر عن الجماعة غير الخائف من أوشاب السياسة ولا العروج عن القضايا الكبرى، وكأنه يسخر من التنظيرات الفجة والمقولات المشاع والتهويمات غير المسؤولة التى ملأت حياتنا الثقافية عن شاعر ما بعد الحداثة المنقطع عن محيطه الحياتى وانشغالاته السياسية ومواقفه الأخلاقية، وكأنها عناصر يمكن فصلها أو تجزأتها، تلك التوجهات التى زالت كما زال مرددوها رغم بقائهم على قيد الحياة واستمرارهم فى ترديد اللغو والتفاهات.
يقول: «أنا نبى من دونِ ديانةٍ ولا أتباعٍ. نبى نفسى/ لا أُلزِمُ أحدًا بدَعْوتى، ولا حتّى أنا/ إذ يحدُثُ أن أكفرَ بنفسى، وأُجدِّفَ على رسالَتِى/ نبى ماذا؟ ومَنْ؟ لا أعرفُ شيئًا فى هذه الظّلمةِ التى تلفُّنى/ لا أحملُ صليبًا على ظَهْرى، وليس لى ناقةٌ تنشقُّ من الصخرِ/ أتلمَّسُ طريقى بالضوءِ الصادرِ من عَينَى/ ولا أرى يدى التى تُلوِّحُ لجُمُوعٍ وَهْميةٍ، تموجُ تحتَ سفحِ الجبلِ».
أخطو فى هذا الليلِ التيهِ، كَمَنْ يتوقّعُ أى شىءٍ من قلبِ الإنسانِ/ صدرى مفعَم ٌبخضرةٍ دائمةٍ /لا بدّ أن هناكَ مَنْ يخطو مثلى فى أمكنةٍ أخرى/لستُ وحيدًا فى هذا الليلِ الجامعِ/ بقَدَمَىَ الملفُوفَتَيْن بخرقةِ الأولياءِ القدامى/ أدوسُ الرملَ، الحجرَ، العوسجَ، الذهبَ الخامَ، الترابَ المرتابَ/ فَمَنْ يعرفُ أى شىءٍ يدوسُ المرءَ فى الليلِ التامِّ/ العمى ليس مرضًا فى العَينَيْن، بل ضعفٌ فى عضلةِ القلبِ/ أخطو إلى هذا الليل ِوفى يدى دليلُ الحائرينَ».
القصيدة فى مملكة آدم محملة بالحياة كلها ومفتوحة على تراجيديا الإنسان، والشاعر يقف حيث يليق به أن يكون، رائيا متورطا معبرا عن المأساة الإنسانية كما تتجلى فى روحه، يكتب بآلامنا جميعا وينطق بألسنة الموتى والمعذبين والضحايا الذين لم يسامحوا قاتليهم، ويعبر عن الأرض التى يحرقها ويدمرها الطغاة والمستبدون فى حرب عبثية لا منتصر فيها، فالكل مهزوم والجميع خاسرون لأن الموت لا يرحم أحدا والجحيم فى انتظار الآفلين ولو كانوا فى بروج مشيدة أو محميين بالقوى الكبرى وحراسهم المدججين بالأسلحة، يكتب الشاعر عمن يرثون الأرض المعذبة والجريحة والمقطعة الأوصال وعن الفجر المقبل من جوف الظلمة لا محالة، فهو إذ يكتب الجحيم بطبقاته السبع، يتساءل ببراءة الطفل وبدهشة الشاعر عن مكان الفردوس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة