اختارت طهران العَدَاء، وسَخّرت إمكاناتها لاستهدافنا، وهو أمرٌ لا ينفصل عن تاريخ «فارس» فى زَرع الشِّقاق بين العرب، بدءًا من تحريض «المأمون»، نجل هارون الرشيد من مَحظيَّةٍ فارسيّة، على قتل شقيقه «الأمين». ورغم امتداد السياق العدائى حتى الآن، لا يَلحظ أصحاب العَمائم السوداء فى «قُم» أننا نتقدّمهم، ونغزوهم من سِكَكٍ أُخرى، وبطرائق أكثر إبداعًا وخيرًا وجمالاً!
قالوا قديمًا إن القرآن قُرئ فى مصر. لدىّ شخصيًّا من الشوفينية والاعتزاز بهذا البلد، ما يكفى لاعتماد تلك القَولة ووضعها فوق هاماتِ العالمين، لكنّ الحقيقة أنّ قُرآنًا بديعًا يُقرأ فى رُبوع شتّى من العالم.
لا أستسيغ قراءة نجد التى سيطرت على عموم المقارئ، بجدّيتها وجفافها، وعُريها من الجماليّات والمُساوقة النغميّة والتعبيريّة للآيات، ويمنعنى من إجلالها أنها انعكاس راهنٌ لصراع قديم، كانت بذوره معارك الاستقطاب بين البصرة والكوفة العراقيَّتين، وانتزاع الأولى هيمنةً شبه كاملة على الفضاء اللُغوى، مُقابل تسيُّد الثانية فى الدّرس القرآنى، مع حضورٍ غير هيِّنٍ لكلّ منهما فى حقل الآخر.
انحازت البادية فى هذا الصراع انحيازًا سياسيًّا، يطول الكلام فى تفاصيله، فتقولبت قراءاتها قرونًا، حتى تحرَّرت جزئيًّا مع توحيد القراءة فى الحرم المكِّى شطر القرن العشرين، بدَفعةٍ من حناجر مصرية لامعة، لكن لم يكتمل التحرُّر وقتها للأسف، بفِعل مناوشات السياسة، وخريطة التحالفات وصراعات القبائل على ارتقاء منابر الحرمين، فظلَّ المدخل الموروث حاكمًا للتعاطى مع النصّ فى شبه الجزيرة وما حولها.
فى الأطراف، تحرَّرت الحواضر الناشئة من الاستقطاب، فتجلَّت صُنوفٌ عدَّة من التبيان والجلال، انعكست واضحة فى خيارات الأقاليم من القراءات، التى تبدَّلت انتقاءاتها حتّى تبلورت: حفصٌ عن عاصم فى مصر، وَرشٌ عن نافع فى المغرب العربى، والدّورى عن أبى عمرو بن العلاء فى السودان وجيوب أفريقية عديدة.
إلى جانب تفضيلات الروايات، انطبعت القراءة بآثار الموروث الثقافى والموسيقى، والخزائن النغمية فى حواضن الترتيل الناشئة، استعاد المقام العراقى بهاءَه، ومزج المَغَاربة رُوح الأندلُس و«نوبة زرياب» بالنصّ، وانداحت رائحة الموسيقى القبطيّة والشعبيّة فى قراءة المصريّين، وأخذت المسيرة خُطوةً أوسع باتّجاه الإحكام مع بلورة الرواحل القرائية: التطريب، والتحزين، والشامية، والراحلة الأفريقية، وغيرها، وهى مسالك للتنغيم والتحقيق والمخارج والتباكى، وما إلى ذلك من سمات الأداء.
فى القرون الأولى انشغل الفُرس بشجارات السياسة وصراعات الحُكم، فتقلّص حضورهم على خارطة التلاوة، رغم الرصيد الثقافى والنغمى الذى يملكونه. تقدّمت مصر والعراق والمغرب وغيرها، وتبعتها «فارس»، وكان من آثار ذلك أن تأخَّرت إيران الحالية ضمن مدارس التلاوة، وأصبح الشطر الأكبر من قُرَّائها المشهورين عالةً على مذاهب فنّية أخرى، كان قُرَّاؤنا البارزون فى طليعتها.
حقَّقت التلاوة استفادة عظيمةً من الموسيقى، ليس فقط بالتطعيم العصرى الذى أنتجته الإزاحات المُتوالية للحناجر بين القراءة والطَّرب، وإنّما مُنذ تطوُّر البنية الإيقاعية فى صدر الإسلام، وشُيوع الغناء المُتقَن مع طُويس وابن سريج وسائب خاثر وغيرهم، واعتماد الفارابى وابن سينا وصفىّ الدين الأرموى آليّةً رياضيّة لتوليد الضُّروب الإيقاعية، ثم صَكّ مَسلكٍ شبيه لتوليد المقامات الموسيقية، بمجاورة الأجناس والعُقود فى مُتواليّات، وُصولاً إلى الصيغة الأكثر اكتمالاً مع تبادل المواقع بين القُرّاء والمُطربين بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر.
النموذج الفاتن فى التلاوة يتجسَّد فى مدرسة التوظيف التعبيرى للصوت، بغرض تفجير طاقات النصّ الدلالية والجمالية، وهو ما ينطبق على: محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، والسيد متولى، وعبدالعزيز حصّان، والشحّات أنور. ومناط التفضيل مَردُّه أن تلك الحناجر زاوجت النغمة والكلمة باقتدارٍ، مُعتمدةً مَسلكًا بيانيًّا وتعبيريًّا يُفجِّر طاقة النَّبر والتنغيم فى الكلمة ووحداتها/ الحروف، ويخلق تفاوتاتٍ إيقاعيّة، رأسيَّة وأُفقيّة، فى الجملة وداخل المُفردة الواحدة، وصولاً إلى توظيف المُوسيقى بفاعليّة عضويّة فى خَلق ظلالٍ تَخييليّة مَرئيّة للمعانى، وتحرير النصّ من سجن الإشارة المجازيّة واستعاريّة العلامة المنطوقة، إلى التعبير البصرى بتحقيق اللغة فى الزمن والصوت، تأسيسًا على طاقة النغم والإيقاع، واتِّكاءً على الشَّحن النفسى، والأَثر التراسلى بين آلتىّ الوعى لدى المُرسل والمتلقِّى.
رغم هذا التفضيل المُؤسَّس على منطقٍ وأثر، لا يُمكن التسليم، قفزًا واستسهالاً، بأنّ شجرة البلاغة الروحيَّة والفنيَّة فى التعاطى مع النصّ قد جفَّت ولم تُوزِّع ثمارنا فى أسواق أُخرى، فالحقيقة أنّها ألقت ظلالها وأورقت فى مجالاتٍ جغرافيّة عريضة، تشاركت هذا المُنجز، أو استعادت حصَّتها منه، باعتبار أن تأسيس الغناء المُتقن وما تبعه من تطوُّر موسيقىّ استند إلى منجز الحضارة الفارسية، وما أضافه العرب ومسلمو شرقىّ آسيا.
ثقافة «فارس» التى أضاعتها السياسة، تبلورت بإسهام العرب والمصريِّين، وعادت لتغزو إيران عبر كتيبة من أساطين القُرّاء والمُرتِّلين، الذين أسَّسوا مدارس راسخة، اجتذبت باقةً من الحناجر الإيرانية، كما تنجذب الفراشات إلى الضوء، ليكونوا تجسيدًا عميقًا وعمليًّا لمُعادلة الصراع من زاوية أخرى، تُوجِّه فيها طهران شُرورها إلينا، ونرُدّ عليها بالقرآن والأنغام، وصبّ أصواتنا فى حناجر مُنشديها، وفى آذان سامعيها وأرواحهم، عبر عباسى سليمى ورضا جاويدى وسعيد طوسى وحامد شاكر نجاد، وغيرهم.
حامد نجاد، كنموذج مُلخّص لمئات النماذج غيره، قارئ إيرانى فى الظاهر، مصرىّ فى الحقيقة، فهو أحد مَن تفيّأوا فى ظلال شجرة تلاوتنا الباسقة، جامعًا تُراث فارس مع بلاغة الحنجرة المصرية، و«عَفقتها» الحاذقة لمُجاورة الكلام للأنغام، والموسيقى للقداسة، بجلالٍ يفتح قوس المعنى، ويُطلق سهم الأثر، وهو دون شكٍّ غُصنٌ يانعٌ من بساتين سُفرائنا المُهيمنين على أسماع العالم، حتى لو كان اخضراره يلمع فى عيون الإيرانيين، ولا يراه المصريّون.. فبينما يجلس الشّاب المُدهش على أريكةٍ واحدة بجانب أساتذته وإخوته من أساطين التلاوة المصرية، فإنه فى واقع الأمر يفرش بساطًا مُزركشًا لمصر وقوّتها الناعمة، ويُرسّخ حضور ثقافتنا فوق العمائم السوداء وفى صدور أصحابها، حتى لو اختاروا أن يُناصبونا العداء!