محمد حبوشه

"محمد عبده" يبلغ المجد الفنى فى السبعين!

الجمعة، 28 يونيو 2019 09:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ببلوغه سن السبعين "12 يونيو 1949" يمكننا القول بأن المطرب السعودي والخليجي الكبير "محمد عبده" قد بلغ أعلى مراتب المجد، بل يستحق عن جدارة لقب "فنان العرب" الذي أطلقه عليه الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة في ثمانينيات القرن الماضي،  فهو يعد أحد أبرز الفنانين الذين ساهموا بنشر الأغنية الخليجية في جميع أنحاء العالم العربي، فهو مطور الأغنية السعودية بجانب الأمير الشاعر "خالد الفيصل"، والأمير الشاعر "بدر بن عبد المحسن"، حتى صار كحالة فنية مبدعة في زمننا، وهو ما يستحق الحديث عن ما قدمه من أغان ومعان أثرت الوجدان العربي بمداد كلمات رصينة تحمل بين طياته كثير من المشاعر والأحاسيس الصادقة، حتى أن صوته يعيش معك اللحظة التي تشعر بها محاكيا مشاعرك، إن كنت سعيدا شاركك السعادة وإن كنت حزينا يواسيك و يخفف عنك حزنك وآلمك، وإن أردت الطرب فقد حصلت على أكثر مما تريد مهما كان ذوقك.

في صوته عذوبة وشجن وألحانه كأنها نسمات الربيع التي تخالج صدرك، وتحلق بك في سماء الحب والأشواق ودفئ المشاعر، يضمك بحنين يرتوي من انسياب كلمات قصائد كتبت بإحساس يحكي قصص ألم العشاق المغرمين، وكأنه يهديها لهم، باختلاف أعمارهم وأذواقهم، ليبقى "محمد عبده" كوكب وحده، نسافر إليه لنستعيد ذكرياتنا ونلامس أرواحنا، لذا فإن أغنية منه في العام أو حفلة داخلية أوأخرى خارجية ستجعلنا ننتظر جديده بذات اللهفة التي كنّا عليها مهما طال السفر، حتى ولو كانت عملية البحث عن الراقي منها في زمننا كعملية البحث عن لؤلؤة في أعماق بحر سحيق!!، ومن ثم فتبدو لي الكتابة عن - "أبو نورة" أقرب الألقاب إلى قلبه - بطبيعة الحال مغرية نظرا لصدق يبرهن على جماليات اختيارته، الأمر الذي أعطى لغناء هذا المطرب ذلك الإحساس بنبل تعبير الفارس في زمن قل فيه الفرسان.

الجميل في أمر الكتابة عن "محمد عبده" أن العمل الغنائي لفنان بقامته العريضة على مستوى الشكل والمضمون، عبر رحلة تزيد على النصف قرن من الزمان، يبدو من نوع السهل الممتنع، حتى أنك تستطيع أن تحلق في سماء إبداعه عن قرب، وتتعمق في كافة الجوانب الفنية فيها دون أدنى تعقيد، وربما يرجع ذلك إلى أن المستمع المتذوق الشغوف لألوانه الغنائي مثلي ليس مضطرا للبحث عن النواحي الإبداعية في أعماله كالباحث عن شيىء قد يكون مفقودا، وإنما المكانة والقيمة الفنية التي يمثلها، وهو الذي ذاق مرارة اليتم صغيرا، حيث مات والده وعمره لايزيد عن عام ونصف وتولت والدته تربيته، وعلى الرغم من أنه عاش رحلة من الفقر والعوز حتى أنه التحق فترة في رباط خيري "ملجأ" هو وشقيقه بمنحه من الملك "فيصل بن عبد العزيز"، لكنه استطاع دخول المعهد الصناعي والتخصص في صناعة السفن في محاولة لتحقيق حلمه القديم بأن يصبح بحارا مثل والده، ولكنه كان مولعا أكثر بالفن والغناء الذي أخذه إلى الإبحار طويلا عبر أمواج النغم الذي أخلص له، ومنحه اهتماما حقيقيا حقق له النجومية ويسر العيش الكريم.

بدأ فنان العرب رحلته الفنية منذ وقت مبكر جدا مع بداية الستينات وربما يكون ذلك تحديدا عام 1961م، وكان وقتها في سن صغيرة جدا - 14 عاما - وهو طالب في المعهد الصناعي بجدة، ولعل التوقيت الذي ظهرت فيه نجومية "محمد عبده" كان هو التوقيت المناسب، فقد جاءت تلك النجومية في وقت كان فيه المجتمع السعودي في طور التشكل، وكانت اللحظة الهادئة تسمح لنجومية المبدعين بأن تأخذ عمقها وحضورها وملامحها، لذا فقد تعمقت تجربته في وجدان الإنسان السعودي، لذا نجد الروائيين والروائيات السعوديين، مثلاً، يستشهدون بأغاني محمد عبده في رواياتهم، ونجد شركات العطور تطلق أسماء أشهر أغانيه على تشكيلة من العطور، وتبدو الملاحظة الهامة الأخرى هو أن "محمد عبده" ساهم إلى حد كبير في تغيير نظرة المجتمع القاصرة للفن، إذ بذل جهدا اجتماعيا يتوازى مع الجهد الفني لكي تصبح صورة الفنان أكثر إيجابية.

وربما يعود ذلك إلى فهمه العميق لتعريف الدكتور "فؤاد زكريا" بأن للموسيقى معنى إيجابيا في حياتنا، فهىلاتكتفي بأن تهز أعصاب المرء أو تثير الانفعال فيه، وإنما تضيف إلى ذلك إيقاظ العقل - عن طريق الحواس - وتنبيه الملكات الواعية، وكشف حقائق جديدة كانت النفس تجهلها من قبل، والحق أن هذه هى المهمة السامية للفن، ألا يكتفي بالتأثير السلبي فينا، بل إنه يقدم لنا شيئا إيجابيا، ويكسبنا مزيدا من المعرفة بالحياة التي نعيش فيها، ولما كانت المناطق الخليجية عاشت زمناً طويلاً على ايقاع حياة لم يتبدل كثيرا ايقاع صيد السمك واللؤلؤ وصناعة السفن والإبحار، ولما كانت عوامل البحر الطبيعية رسمت إيقاع حياتهم بشكل عام، فان ايقاع موسيقاهم والغناء ظل طوال سنوات بل قرون عديدة بكرا، حتى وإن تنبهوا الى هذه الحقيقة باكراً، ولعلها هى التي مهدت الطريق لاستقبال "محمد عبده" حين ظهر أواخر الستينات، من محليتهما الى الفضاء العربي، عبر بيروت والقاهرة.

ومنذ ظهوره وبفعل هذا التلاقح الجديد الذي كان بدأ يعرض نفسه بين مجتمعات الهجرة ومجتمعات الاستقبال الخليجية، كان من الطبيعي للأغنية الخليجية أن تنتشر وتبرز في بعض الأحيان بوصفها المنافس الرئيسي للأغنية المصرية، حتى صارت خلال العقدين الاخيرين حقيقة واضحة بفضل "محمد عبده"، وفرضت ايقاعاتها الجديدة حتى على "الغناء العربي الآخر"، وصار "اللون" الخليجي - حسب تعبير أهل المهنة - لونا سائدا ومطلوبا، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن حضورها الطاغي ينطلق من محاولة إرضاء المستمع الخليجي وحده، وأن انطلاقته إنما هي اشارة "لتشتت الأذواق العربية"، كما قال أحد النقاد، فالحال أن أي منصف مراقب لما يحدث سيكتشف أن الاهتمام العربي العام بالغناء الخليجي نبع من حضور هذا الغناء كعمل فني قائم بذاته، ومن ايقاعاته الجديدة، وأحيانا من خلال الكلام المبتكر والجديد على الأذن العربية.

ومن هنا فالواقف على نتاج الفنان محمد عبده من ألحانه وغنائه لمئات الأغنيات يلمس أنها تنطلق في أغلبها من أرضية واضحة لألوان شعبية وأنغام وإيقاعات فلكلورية، هذا فضلاً عن الأغاني التراثية المعروفة التي تغنى بها، ولعل "عبده" هو أفضل من تعامل مع تراث الجزيرة العربية الموسيقي سواء بتقديمه بقوالبه المتوارثة الجاهزة أوعبر إدخال اللزمات الموسيقية، وعمل كوبليهات تنطلق من مذهب لحني فلكلوري، فمنذ بداياته اهتم "محمد عبده" بحفظ التراث الغنائي الموسيقي والإيقاعي والإلمام به ومعرفة مصادره مدركاً أهمية التثقف في هذا الجانب، ثم حين أخذ يفرز مخزونه السماعي التراثي ويستند في وضع لحن ما على لون تراثي معين فانه يتناوله كفكرة قابلة للتطوير، وإضافة البصمة الخاصة أو وجهة النظر الأدائية، أو بلورة وإعادة تشكيل اللحن بما يتناسب مع خطوطه الغنائية، ومن أوائل الألحان الناجحة ذات الجذور التراثية "دستور، يا مركب الهند، يا منيتي يا سلا خاطري، لو كلفتني المحبة، يا صاح، وقلبي اللي".

وتمثل اختيارات "محمد عبده" من الشعر واللحن بالنسبة لقطاع عريض من المتلقين العرب معينا من النظم الرصين، وبانوراما موسيقية يندر أن نجد لها مثيلا عند كثير من المطربين، حتى إنه يمكنني أن أميز إخلاصه للشعر النبطي الذي يعتبر الوريث الشرعي للشعر العمودي في بيانه ومعانيه وأوزانه أكثر حتى من شعر الفصحى المعاصر، منذ غنائه "خاصمت عيني من سنين - 1968" من كلمات طاهر زمخشري، وألحان "محمد محسن" ومرورا بعدة ألبومات من أبرزها: "وهم - العقد - يا مرحبا يا معنّى - أرفض المسافة - أنشودة المطر- حبيبتي - وين أحب الليلة - دعاني الشوق - مجموعة إنسان - يماني حجاز- يماني خليجي- بنت النور- مذهله - الأماكن - فوق هام السحب - كوكب الأرض- عيون الليل - يا ناعس الجفن - أفراح العروس - ارفع ستار الخجل - الرمش الطويل - لنا الله - من رماد المصابيح" وحتى إصدار آخر ألبوماته هذا العام "يا غافية قومي"، والذي يعد امتدادا لبصمة "طلال" اللحنية، بإيجابيتها وسلبياتها، حيث يتكرر تعامله الغريب مع مقدمات الأغاني، فبدلًا من أن تمثل مركز ثقل يؤسس للحالة ومرجعا ييسر على المتلقي تذكر وحفظ الأغنية، فإنه يحيلها إلى مجرد مرحلة عابرة يسهل تصور الأغنية بمقدمة غيرها تماما.

إن تجربة "محمد عبده" الطويلة تحفل بالتنوع وبالمغامرات الغنائية، سواء على مستوى اللحن أو الكلمات أو حتى الألوان الغنائية التي يؤديها، لكن هذا التنوع لم يكن فيه انحياز كلي للون غنائي ما، ولم يكن فيه استغراق في أداء لون غنائي ما، بل قاده ذكاؤه الفني إلى مواصلة غناء أطياف من الألوان الغنائية طيلة مسيرته الفنية، فهو يغني الأغنية التي تحمل النكهة التراثية مثل "ساجي الطرف - مس ورد الخد"، وفي ذات الوقت يغني الأغنية المكبهلة كـ "ليلة خميس - المعازيم- حسايف"، وقد خضب محمد عبده مسيرته بغناء القصيدة الشعبية فغنى "غريب الدار- التمني- يا شايل الظبي"، وفي ذات الوقت غنى الأغنية ذات الجذور اليمنية مثل "ضناني الشوق - لي في ربا حاجر- يا مستجيب للداعي"، ولم ينس كذلك أن يقدم القصيدة الفصيحة فنجده يغني: "لورا - كالحلم جئتِ - أنشودة المطر- أراك عصي الدمع".

إن هذا التنويع في غناء الأطياف الغنائية جاء في حالة تناغم وتوازن منحت تجربة "محمد عبده" الفنية أبعاداً مختلفة، وأوصلته إلى شرائح متباينة من الجماهير محلياً وعربيا، لذا كثيرا ما نقرأ عبارة "محمد عبده فنان ذكي" حتى أصبحت هذه العبارة من العبارات الكلاسيكية المرادفة للحديث عنه، لكن تأمل هذه العبارة يحتاج إلى تمهل، فالمحبون لمحمد عبده يطلقون هذه العبارة كإحدى مزاياه، والجمهور المنافس يطلقها بمعنى آخر له دلالته عند الخصوم، لكن عندما نفكك هذه العبارة سنجد أننا أمام فنان يثمن موهبته الفنية، فهو جاد في تعاطيه معها، وهو ملتزم بواجباته الفنية، سواء على مستوى الحفلات أو الحرص على الأداء الجيد على المسرح، ومن ثم يبقى عنده قدرة على قراءة المشهد الغنائي، فهو أما أن يغني النصوص التي تناسب المرحلة وأما أن يتقدم زمنه فيغني ما قد يدهش الآخرين بعد زمن، لكن هذا الذكاء لم يكن ذكاء فنيا خالصا فحسب، بل كان ممتزجاً بالذكاء الإنساني، وبذا فقد كرس خصوصيته الفنية.

وفي النهاية يبقى "محمد عبده" محافظا على ألوانه الغنائية التي تطرقت لكل موضوعات الحياة بما فيها "البحر والمراكب والأشجار والطيور وخرير الماء والصحراء، وكافة عناصر الطبيعة"، فضلا عن معاني تغازل الحبيبة والأم والإبنة، حيث يتضح لنا احترامه الشديد للمرأة في كل أعماله، مخاطبا إياه بالود والرقة والعفة، الأمر الذي رسخه كصاحب صوت عذب رخيم، وأغاني تطريبية أصيلة بطعم نبطي فاتن، و أداء منمق ينقل المستمع إلى جو من الطرب الروحاني، لذا يعد واحدا من القلائل الذين يمتلكون سر هذه التركيبة، حيث استأثر بأحد عناصرها لنفسه، فقد كان يعلم أن ما من أحد يستطيع الحصول على صوته أو أداءه لأنهما جزء منه، ومن هنا بلغ المجد الفني في السبعين من عمره، وأصبح "فنان العرب" بجدارة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة