ستظل التجربة المصرية فى 30 يونيو وما بعدها مصدر إلهام لعديد من الدول، لأن روح هذه التجربة تعتبر أصدق تعبير عن إرادة شعب فى مواجهة استعمار غربى متجدد من ناحية، وانفجار التخلف الدينى من الداخل من ناحية أخرى، وهما عنصران كثيرا ما صككنا الشعارات الحماسية لمواجهتهما، واكتشفنا أن كل ما كان سابقا أقرب لترديد الشعارات من التحرك على الأرض للمواجهة، كما اكتشفنا كيف يستخدم كلا العنصرين الآخر لإحكام السيطرة على البلاد العربية الإسلامية، وإن اختلفت الأهداف والرؤى.
وكلما تداعت الأخبار بأعراض الفوضى الخلاقة فى أحد البلاد العربية أو بلدان الشرق الأوسط، أعدت على نفسى السؤال المصحوب بحمد الله وشكره على نعمته السابغة: كيف ولماذا نجت مصر من وباء الفوضى الخلاقة ؟
نفس السيناريو كان يراد لهذا البلد لولا أن الله سخر له رجالا يحبونه ويسهرون على حمايته، فكانت قرارات حماية الشعب وثورته فى 30 يونيو، كما كانت الوقفة الصلبة وتلاحم الجيش والشعب بكل فئاته فى وجه المؤامرات الغربية التى تلت 3 يوليو وعزل مندوب الإخوان والمخابرات الأمريكية فى قصر الرئاسة، فتكسرت كل الضربات الاقتصادية والسياسية والمؤامرات التخريبية على صخرة هذا التلاحم بين الشعب وقواته المسلحة، وبدأت قطاعات واسعة من الجماهير تدرك خبايا وأسرار الحروب الذكية والحروب المعلوماتية وحروب السوشيال ميديا واستخدام الشخصيات العامة والفنانين والإعلاميين فى تشويه النظام والإنجازات.
كيف نجت مصر من الفوضى المدمرة والعالم يشتعل بالحروب التكتيكية المحدودة والعمليات الإرهابية التى تقف وراءها أجهزة المخابرات الدولية؟ فى كل بلد بؤرة توتر داخلية أو حدودية أو إقليمية، ولتنظروا ليس إلى السودان أو ليبيا أو سوريا واليمن والعراق وقبلهم الصومال ، بل إلى قارات العالم القديم الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوربا، الإرهاب هو الفزع الأكبر والحروب الأهلية كالماء والهواء والدماء تسيل يوميا، مع غياب الأمل بأن يتغير الوضع فى القريب العاجل لأن الساسة المتحكمين بالأمور، يسترزقون من تجارة الدماء والأسلحة وإعادة تخطيط العالم من جديد.
فى الماضى القريب كانت المنطقة العربية وأفريقيا تحت حزام الصحراء هى المنطقة الأكثر ابتلاء بالحروب الأهلية والثورات والاشتباكات، ربما لأنها المنطقة المخطط لها إعادة التقسيم بعد انصهارها واشتعالها بالفوضى، لكن المخططين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكونوا يتوقعون أن تمتد النيران خارج الصندوق العربى إلى أوروبا، لتجتذب القوى الكبرى فى صراع ومواجهة غير محسوبة بالمرة.
لم تعد عاصمة عربية أو أوربية بعيدة عن الذئاب المنفردة أو التفجيرات عن بعد أو عمليات التفجير باستخدام السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، مع انتشار أعداد كبيرة من الشباب المحبط والغاضب من أصول عربية وإسلامية فى مختلف العواصم الأوروبية، وهو يشهد بوضوح المؤامرة الغربية المعلنة ضد البلاد العربية والإسلامية وما تؤدى إليه من قتل وتشريد مئات الآلاف، والانفجارات تتوالى فى العواصم العربية والغربية دون بيان واضح عن الفاعل، وفى كل مرة يخرج تنظيم داعش الإرهابى ليعلن مسؤوليته عن الحادث أو ينشر عددا من صور الأنصار التابعين له قبل تجنيدهم للقيام بالعمليات الانتحارية.
كم رفعنا شعار مواجهة الاستعمار خلال العقود الماضية، وكم توارى خلف الشعار حكام متسلطون وأزلام من النخبة، لم تستطع أن تكون على مستوى الشارع، وكم تاجرنا بالشعار لتحقيق خيالات فى أذهان رأس السلطة لم تكن تسندها أحلام البسطاء أو إرادتهم، كما لم تساندها قدرات الدولة وإمكاناتها، فكانت الهزائم التى انكسرت معها نفوس وأرواح المصريين.
وكم رفعنا شعار مواجهة الإرهاب والتطرف للتغطية على عجز الإدارة الحاكمة آنذاك عن مجابهة تحديات التنمية البشرية، وتحقق العدالة الاجتماعية، واستشراف المستقبل بما يحمله من مخاطر جديدة، الأمر الذى أدى إلى تحول عدة أجيال أودى بهم الفقر والبطالة إلى أن يكونوا تهديدا محتملا ومتطرفين تحت الطلب، يعاقبون المجتمع كله على سوء إدارة النظام للأمور.
الآن، الوضع مختلف، المصريون أدركوا ما يراد لهم وتعلموا مما مر بهم ، من العدو ومن الصديق، كما وعوا بالآليات الجديدة للحروب التكنولوجية وتفجير المجتمعات من الداخل، واستخدام مجموعات المرتزقة لإشعال الفتن الطائفية أو نعرات الثأر أو النزاعات الإثنية والقبلية وصولا إلى الحرب الأهلية بالأسلحة الصغيرة، التى لا ينتصر فيها طرف على الآخر، وتحدث تدميرا شاملا يكفى لإسقاط الدول وتفكيكها، كما يحدث حولنا فى العراق وليبيا والصومال وسوريا واليمن.
المصريون يتحركون الآن بوعى عميق بمشكلاتهم، وبرغبة راسخة فى عبور أزماتهم، من خلال الالتفاف حول قيادتهم والإيمان بتوجهاتها فى صالح البلد، ولذا فوتوا عشرات الفرص والمناسبات التى حاول من خلالها أعداء البلد وأجهزة المخابرات العدوة إحداث الفوضى، عبر تلوين الأحداث السياسية أو بث الشائعات وتضخيمها أو إعادة إحياء فلول جماعة الإخوان الإرهابية فى النقابات المهنية والمتعاطفين معها من آحاد السياسيين.
كما تحمل المصريون بشجاعة وفهم عميقين إجراءات الإصلاح الاقتصادى، وما نتج عنه من أعراض جانبية حتمية، وفى مقدمتها غلاء الأسعار، مقدمين مصلحة البلد على مصالحهم الشخصية، وفضلوا التحمل لسنوات قليلة، على أن يمر البلد من كبوة الفوضى والانهيار الاقتصادى إلى آفاق التنمية، بدل أن يجلوا الإصلاح إلى سنوات مقبلة وساعتها لن يكون هناك طريق للإصلاح ولن يتحمل المجتمع الآثار الكارثية للعشوائية الاقتصادية وغياب خطط التنمية والتطوير.
30 يونيو إذن لم تكن مجرد ثورة شعبية ضد حكم الاستبداد الإخوانى المرتبط بالاستعمار الجديد فحسب ، بل كانت مشروعا مصريا للنهضة ، لاستعادة مصر ودورها الإقليمى العربى والأفريقى وكذا دورها الدولى وهو ما نراه يتحقق وتتضح معالمه يوما بعد يوم.