يعرف المهتمون بالكتب أن هناك نوعا منها يسمى كتب الضرورة، وهى تلك التى لا يمكن الاستغناء عنها، والتى يكون تأليفها وكتابتها "أمرا ملحا"، والتى نقول لأنفسنا بعد قراءتها "كان لابد من فعلها" ومن هذه الكتب "أوراق الجريمة 805.. مقتل الأنبا إبيفانوس" للشاعرة والكاتبة الصحفية سارة علام، والذى صدرت طبعته الثانية عن دار العين مؤخرا.
قرأت الكتاب بشغف، وأعترف أنه كان جديدًا على تماما، وكل المعرفة التى جاءت فيه، لم أكن على علم بها، فهنا عالم كامل يدور وراء الأديرة وخلف نوافذ الكنائس لا أرى منه سوى ظلاله، وقد كنت أظن أن الكنائس تحجبنا عنها الأسوار العالية والحيطان الكثيرة، وكنت أعتقد أن الأديرة يمنعنا عنها بعد المسافات ومشقات السفر واعتزال أهلها الدنيا، لكن سارة علام وهى تخوض فى منطقة خبرتها وداست أرضها جيدا تقول لى الحقيقة، تخبرنى بأن خلف هذه المبانى أناسا يشبهوننا بعضهم نجح فى تجربته الروحية وبعضهم أخفق، بعضهم يملك رؤية وفكرا وبعضم يملك مصلحة يخشى عليها.
انطلق الكتاب، باحترافية، من جريمة سمع عنها الجميع وقعت فى أحد أشهر الأديرة فى مصر، وربما فى العالم، إنه دير الأنبا أبو مقار فى وادى النطرون، لقد وجدوا الأنبا إبيفانوس، رئيس الدير، مقتولا، فجر اليوم التاسع والعشرين من يوليو 2018، وعن نفسى أتذكر ذلك الصباح الغريب، عندما انتشر الخبر، حينها بحثت عن سارة علام لأسألها، فهذه منطقتها التى اجتهدت واستطاعت أن تصنع فيها بصمة حقيقية.
تقول التحقيقات إن الأنبا إبيفانيوس تلقى ثلاث ضربات قاتلة من الخلف، هشمت جمجمته وفصلتها نصفين، فقلت "القاتل محض لص، لأن هذا العنف يصنعه الخوف"، وقالت سارة علام "بل القاتل محض راهب، وهذا العنف يصنعه الحقد".
قلت: ومن أين يأتى الحقد لرجال دين يعبدون الله فى صحرائه وقد أعلنوا موتهم بأنفسهم عندما اختاروا سلك الرهبنة؟ قالت: الموضوع كبير، ثم عادت فى كتابها لتحكى تاريخًا طويلًا من الصراع فى الكنيسة المصرية، كانت أخطر حلقاته تلك التى وقعت بين البابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية بابا كنيسة الإسكندرية السابق، وبين القمص متى المسكين المتنيح فى عام 2006، والذى كان قبل موته رئيس دير أبو مقار الذى وقعت فيه الجريمة مؤخرًا، بل أكثر من رئيس دير، كان معلما.
لقد أطلت سارة علام من نافذة الجريمة لتأخذنا فى رحلة صعبة لمدرستين مختلفتين تفكران فى الكنيسة المصرية، لكل واحدة رجالها، وقد حاول البابا السابق بعد موت القمص الشهير أن يفرض كلمته على الدير، وكان ذلك الخطأ الذى انتهى بنا لتأمل دم شيخ يسيل على أرض طاهرة.
ويدخل بنا الكتاب إلى العمق أكثر، يقول إن الرهبنة تحتاج إلى إعادة ضبط، لقد تفلت الأمر بعض الشيء، وصار عند البعض بمثابة مكان يعيشون فيه، أو فكرة طرأت على أذهانهم ذات يوم، بل يقول لنا الكتاب، إن الرهبنة لدى البعض "مصلحة" كبرى يحصلون من ورائها على النفع الكثير.
وبعيدًا عن الصراعات الداخلية فى الكتاب سوف نقرأ جزءا عنوانه "من دفتر الدم والرماد" وفيه رصد إنسانى شفيف للأحزان، لا يمكن القول إنها أحزان مسيحية فقط، لكنه مصرية من قبل ومن بعد، فصل بمثابة مرثية لأشياء جميلة فى حياتنا الراهنة.
بالطبع لا تستطيع مقالة واحدة أن تحيط بكتاب مهم مثل "أوراق الجريمة 805.. مقتل الأنبا إبيفانوس"، لكن الإشارة تكفى، فالكتاب محتشد بالمعلومات ومزدهر بالحيوية، وهو مهمة ثقيلة تشبه "محاولة السير على حقل ألغام، كلما مشيت خطوة تعثرت قدمك فى لغم" على حد وصف سارة علام، التى استطاعت أن تجتاز ذلك الحقل سالمة، بينما نحن ما نزال نفكر "مندهشين".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة