نصل بالنضج بمرحلة يصبح بها حوارنا مع الأغراب فيه ألفة.. فيه راحة.. فيه ابتسامة نفتقدها مع أقرب الناس لنا.. تفتح قلبك من غير ما تحس بحذر داخلي، أو تفكر قبل ما تقول.
يعني إنسان لا يوجد بينك وبينه أي سابق معرفة ويأخذ الحوار منحى عميقًا (تتكلم من جواك) بشكل لا تستطيع أن تفعله مع أقرب الناس.. وليس سعيًا عن مشاعر أو لفت انتباه أو بحث عن مراد معين.. بل بكل بساطة أرواح تلتقى بأرواح.. بتبقى قاعد بتتكلم من غير أي فلتر.
في الأغلب بعد الأربعين، أغلب من حولنا يصغرنا سنًا وخبرة.. فنجلس متكئين للخلف، نستمع لحماسات الشباب بابتسامة العارف.. وننصح رغم معرفتنا بفشل محاولات النصح.. فكلُ يفضل خوض تجاربه بنفسه.. إذ ونحن في ريعان الشباب، على كم التهور والرعونة إلا أننا يكون لدينا تحفظات شديدة في أشياء أسخف من السخافة.. ونتمسك بهذه التحفظات إلى أن يحل النضوج فينا.. ونجلس للخلف.. فلم يعد لدينا وقت نضيعه فى مهاترات.. فكل دقيقة هي عمر.. لم نعد نبحث عن إثارة وتشويق.. بل أصبح الهدف السلام الداخلي الذي يناسبنا فقط (فكل منا له سلامه الداخلي الخاص به).
كم منا ونحن صغار كانت الغيرة تلعب دورًا أساسيًا في علاقته العاطفية (متروحيش، متكلميش، متلبسيش) (صاحبك ده لا، بنت خالتك، زميلتك في الجامعة مين).. هل تصدق أنك الآن ستضيع من عمرك وقتًا ومجهودًا على الغيرة!
كم منا كان خصامٌ مع الأصدقاء يؤرقه ليلاً أو يجعله حبيس المنزل من الاكتئاب، أمن المعقول الآن ان نغير سير أيامنا لأجل أي أحد؟!
كم منا فراق الأحبة غير مجرى قلبه؟ لم يعد كما كان؟ في حين الآن أي فراق يأخذ دورًا جانبيًا في حياة مليئة بالزحام سواء أشياء أو أشخاص.
فمهما حدث؛ سنستيقظ صباحًا، سنذهب إلى أعمالنا، سنتابع أبناءنا، سنطمئن على صحة والدينا (حال كانت الدنيا رفيقة بنا وامدت بعمرهم إلى الآن) تصبح أولياتنا السابقة لا تجد مكانًا على سلمنا الحالى.
حين ننضج نتغير.. رغم محاولات كثيرين مروا في حياتنا أن نتغير وفشلوا.. يأتي النضوج ويغيرنا بسلاسة (يعني لو كانوا صبروا كانوا نالوا).
ووسط هذا كله نلتقى بأغراب.. من الممكن أن تجمعنا بهم دقائق أمام كاشير، أو في طابور، أو في انتظار موعدنا في عيادة.. أو على مواقع التواصل الاجتماعي.. في المطار.. حتى في الاستاد.. أي مكان كان.
ومن الممكن ألا يطول الحوار عن دقائق ولكننا نحملها معنا ونفكر بها ومن المحتمل جدًا أن تغير نظرتنا لأمور معينة.
ومن الممكن أن تكون فضفضة لا أكثر.. حمل لا نستطيع أن نشاركه مع أقرب الناس حتى لا نزيد قلقهم أو حتى لا نفتح على أنفسنا أبواب جدل ومشكلات (حتة تفكير ذكوري صرف)
فيصبح التعبير للغريب أسهل.. فهنا سنقول وهنا سندفن ما قلنا ونمضي.
ما زالت عالقة في ذاكرتي كم لقاءاتي بأغراب حتى قبل النضوج.. أمام باب المحاضرة.. في المطار.. فى المشفى مع أمي.. في بنك.. سائق تاكسي (كتاب تاكسي لخالد الخميسي قام على فكرة لقاء الأغراب)
الإنسان مخلوق عجيب.. نظل نسعى للقرب حتى نفقد القدرة على رؤية هذا القريب.. يصبح جزءًا منا لا نشعر به.. كاليد.. كالقدم.. كالأذن.. كلها أساسية في حياتنا ولكننا لا نشعر بها.. إذ يأتينا وقت نحتاج لذلك البعيد.. حتى ولو للحظات عابرة.. تكون بمثل تنفيس عن دواخلنا، أو شحن طاقة لما هو قادم.
هؤلاء من نسميهم عابري السبيل.. من يمروا بالعمر لحظة و يتركوا علامة.. نذكرهم بابتسامة.. ونروي عن تلك اللحظات معهم وعبرتها للأبناء والأصدقاء.. وفي الغالب.. يمر العمر.. ولا نلتقي مرة أخرى.
أنا باشوف إن لقاء الغريب رحمة من ربنا.. وأوقات كتير علامات.. إنه لقاء مليء بالعون والهون.. وعلى أد ما هو صدفة.. على أد ما هو مترتب.
"ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد".