منذ ديوانه الأول " راعى المياه – هيئة الكتاب 1993" ، يضرب الشاعر فتحى عبد الله فى أرض الشعر بعصاه ، مرددا ما يحفظ من أوراد وطلاسم ، عسى أن تتفجر ينابيع الماء تحت قدميه فى المقهى أو تتحول الشيشة بين يديه على مقهى البستان إلى معرفة أبدية وعلم لدنى يصالح بين مشاهد أفلام الكاوبوى وتجار الملابس فى وكالة البلح ، وبين أبيه الشيخ الذى يجلس مراقبا الأرض والماء وبين أضابير ودهاليز هيئة الكتاب ، وبين المهمشين العابرين إلى موتهم القريب والإعلانات الحديثة أعلى العمارات الشاهقة.
فى هذا الديوان وفى ما يليه من أعمال شعرية "سعادة متأخرة – هيئة الكتاب 1998" و" موسيقيون لأدوار صغيرة – هيئة الكتاب 2002" و" أثر البكاء- هيئة قصور الثقافة 2004" والرسائل عادة لا تذكر الموتى – منشورات الدار 2008" ، يرفع فتحى عبد الله شعار "الهلوسة حق من حقوق المتكلم بالشعر ، انطلاقا من أن العبارات التى تطرأ على ذهن الشاعر جديرة بالتدوين ، والقصائد هى ما هى عليه ،لها وجودها الأزلى المتعين وليست مخلوقة من عدم ، وما الشاعر إلا رسول الكلمات ، وعليه السمع والطاعة للقصيدة حتى تملى نفسها بنفسها عليه ، وبعد ذلك يأتى دور الشراح والمفسرين والنقاد ، ليسدوا الثغرات بين العبارات الشعرية ويملئوها بالمعانى ، أو يعملوا عقولهم فى تأويل يناسب ما تجمع من حقول دلالية متنافرة ليوجدوا السياق الذى يناسبهم هم ،أما الشاعر فهو صاحب السياق الذى يراه أو يهجس به فى زمن ماض أو آت لا فرق ، أليس الشاعر هو المتمرد الدائم ؟ أليس الشاعر هو المهلوس الأكبر؟ أليس هو صاحب الحق فى اجتراح المعنى خارج الفهم الشائع للمعنى؟ أليس الشاعر هو المسموح له قديما وحديثا بتجاوز القواعد والأعراف اللغوية والشائع المستقر من تآليف الكلام؟ أليس الشاعر هو دائما بروميثيوس سارق النار تلمعرفية المقدسة ومكتشف الأراضى الجديدة فى الوعى
" قبل أن أنام / سألت زوجتي عن ساعي البريد / وعدد الموتى الذين خطروا بشقتي وأنا غائب / قالت : ذو الشال الأبيض همس بنومين/وترك صحيفة الأعمال مملوءة بالخطوط /ولم أعرف كم جنازة/ حملها للمصلين /لكنه أوصى بمراقبة الأشجار وزيارة المحافل /ربما نعثر على هواء جديد - راعى المياه"
فتحى عبد الله ليس شاعرا سورياليا إذا شئنا الدقة ، رغم اقترابه كثيرا من تخوم الأحلام والصور الهائمة فى الذهن والعلاقات المتنافرة ، تلك التداعيات التى لا يربط بينها رابط أو معنى مستقيم ، بل هو بالأحرى أقرب إلى جماعة الدادية ، وأنصار مواجهة الأطر الفنية المستقرة بالهدم عن طريق الفن أيضا والاستسلام للكتابة التلقائية أو الكتابة الآلية والحدوس الشعرية المفاجئة بدون مراجعة أو تنقيح . ومن ثم نلمس عند فتحى عبد الله فى جميع دواوينه تلك النزعة الدادائية التى تدين للكتابة الآلية بوجود القصيدة وتعينها ، كما نلمس عنده أيضا السياقات المقطوعة والسياقات المتجاورة والسياقات المتداخلة ، فهو ليس من الشعراء المهمومين بإنتاج المعنى الدلالى المباشر وإن كان معنيا بإنتاج غمامات شعورية وسياقات لها مستوياتها الباطنية التى تستفز قارئها لتأويلها أو حتى لمقاطعتها .
"أشاعوا بأن أبقاري/ التي تعهدتها بالرعاية/ لم تعجب لابسي الكاوبوي/ خاصة وأن لحيتي لم تدل كثيراًعلى مهارة في الملاكمة / ولا سرعة في حشو المسدس – سعادة متأخرة ".
"لا تكن قاسيا هكذا / ففي الزيارات الأخيرة لم تسمع هذياني كما تعودت/ ولم تتحدث عن جارتك التى تأكل في الليل والنهار.../لا أسمع إلا أصواتك في الشارع أو في المقهى /أو داخل المصعد / فتألمي بسماحة أكثر من هذا- موسيقيون لأدوار صغيرة"
ما يعزز التوجه الدادائى لدى فتحى عبد الله ، تعمده تقطيع أوصال الجمل المستقيمة إلى أجزاء متتابعة على الأسطر ، وبدلا من الكتابة المباشرة تبدو الجمل الشعرية وكأنها تتقاطر أو تتداعى متناثرة ، وفى قصيدة بعنوان " يضحكون من صراخى فى ديوان " الرسائل عادة لا تذكر الموتى ، يكتب على هذا المنوال :
"أتخبط فى السلالم/وهم يضحكون من صراخي /الذي يهدأ /فى الحجرة الكبيرة /لم يسمعوا ما أسمع /أبي يفرد كوفيته البيضاء /على وجهي / ويطرد الذباب / قد يستطيع هذا الضعيف / أن يزور صاحب العمامة /الخضراء /في أعالى الجبال /وقد يأخذ من قميصه /بعض الروائح /وقد يتزوج من ملاك /تضع المصل /فى كل صلاة /للذين قطعوا أناملهم /أثناء الزيارة /وربما يعود فى قطار /لا يركبه أحد /وأحيانا أراه /وراء /قضبان /وعندما أصيح كالمجنون /من ألم الظهر /يترك المقبوض عليهم /روحي /للكهوف المليئة بالطبول /ربما يفصل رقبته /أحد اللصوص /أو يأخذه الحشاشون /إلى منزل الأشباح /فلا يرجع إلا جثة /ومع الهواء الخفيف /أطمئن قليلاً / وأسمع غناء أبى /على طيوره /التى تعود من البحيرة /وأخطف من جاري /الذي يلهو /بالبالونات /الحمراء /قبعته القديمة/وأرقص مع الزائرين /الذين يدخلون /ويخرجون /فى لحظة واحدة /ولا يشاهدهم أحد" .
بينما كان من الممكن أن تكتب القصيدة على نحو يحافظ على اكتمال العبارة واستقامة المعنى ، لو كان الشاعر راغبا فى إيصال هذا المعنى الواضح، ويمكن أن نلحظ تأثيرا دلاليا مختلفا لو كانت القصيدة مكتوبة على النحو التالى: "
"أتخبط فى السلالم وهم يضحكون من صراخي الذي يهدأ فى الحجرة الكبيرة /لم يسمعوا ما أسمع /أبي يفرد كوفيته البيضاء على وجهي ويطرد الذباب / قد يستطيع هذا الضعيف أن يزور صاحب العمامة الخضراء في أعالى الجبال /وقد يأخذ من قميصه بعض الروائح /وقد يتزوج من ملاك تضع المصل فى كل صلاة /للذين قطعوا أناملهم أثناء الزيارة /وربما يعود فى قطار لا يركبه أحد /وأحيانا أراه وراء قضبان /وعندما أصيح كالمجنون من ألم الظهر /يترك المقبوض عليهم روحي للكهوف المليئة بالطبول /ربما يفصل رقبته أحد اللصوص /أو يأخذه الحشاشون إلى منزل الأشباح /فلا يرجع إلا جثة /ومع الهواء الخفيف أطمئن قليلاً / وأسمع غناء أبى على طيوره التى تعود من البحيرة /وأخطف من جاري الذي يلهو بالبالونات الحمراء /قبعته القديمة/وأرقص مع الزائرين الذين يدخلون ويخرجون فى لحظة واحدة /ولا يشاهدهم أحد" .
هذا التقطير أو تقطيع أوصال الجملة الشعرية إلى كلمات وأشباه عبارات ، يبدو كأنه تكنيك كتابى اعتاده الشاعر وظنه ضمن أدواته التعبيرية الجمالية ، لكنه فى الحقيقة يكف الشاعر عن الاستغراق فى حالة القصيدة ويمنحه شعورا بالرضا والانتصار والقبض على غاياته الجمالية بمجرد أن يصل إلى تخومها أو يمسها مسا ، كما أنه مجحف بالنسبة للحالة الشعورية ،ويحول دون وصول الأطياف الحلمية التى يقبض عليها الشاعر قبضا خفيفا ويطلقها تحلق بين ثنايا قصيدته لتكتمل بالتلقى المحب الفاهم
من ناحية ثانية ، لا تعنى النزعة الآلية فى الكتابة لدى فتحى عبد الله ، التعسف أو الاستسهال أو استغلال النموذج لإقامة خط إنتاج من الكتابات الكولاجية التى تتجمع فيها الاشارات والصور والعبارات من أركان الأرض الأربعة ، بل على العكس من ذلك ، فالكتابة عزيزة والشاعر مقل ، لارتباط القصيدة لديه بنزعة باطنية، فهو الدرويش الذى لا يرقص إلا إذا كان سعيدا ، حتى لو كان يستدعى أكثر الذكريات إيلاما ومنها ما يتعلق برحيل الأب أو حلوله فى جميع مفردات العالم الخاص بالشاعر.
الأب هو قطب الدرويش الشاعر ، ملاذه وملجؤه ومحور وجوده وهو أيضا مركز قصائده وجامع نثاراته والضوء الذى ينير كولاجه من الاشارات والصور، وكأننا بصدد شعرية تتأسس على محبة الأب وتقمصه واستدعائه والحلول فيه والتكامل معه فى مواجهة توجهات إبداعية قامت على مقولات فرويد حول قتل الأب وإزاحته واحتلال فضائه، بصرف النظر عن إمكانية تحققها ومصداقيتها
عادة ، ما يبدأ فتحى عبد الله الكتابة باستدعاء الاب الغائب بصيغ مختلفة قد تكون الحلم به أو الإحالة اليه، أو إضاءة القصيدة به فى جملة عابرة ،
وعندما يحضر الأب أو طيفه. أو فعله فى القصيدة ، يصبح من السهل أن تتدافع العبارات والصور لتسجل حالة الفقد والأسى الغالبة على مناخات الشاعر ، وعندما يحضر الأب يمكن أيضا أن تكتشف القصيدة خاتمتها أو اكتمالها، ولنا أن نختتم انطباعاتنا هذه بالقصيدة التى تحمل عنوان الديوان الأخير "الرسائل عادة لا تذكر الموتى" :
"الرسائل عادة لا تذكر الموتى
لكنهم يظهرون فى أوقات
متأخرة من الليل
كأن يغلق أبى خزانة الطعام
ويطمئن على نوم
أمى
وأنا ألهث
كمن هبط من أعالى
الجبال
ولا أقبض على قميصه
الأزرق.
ربما اختفى
أو ذهب وحده إلى
الرمال
فمن يستطيع أن يسمع
حفيفه بين الأشجار ؟
أو يراه نائمًا
بين أكياس القطن
وعندما أسمع نداءه
فى نهار الناس
تقسم أمى
أنه أخذ المجنون
إلى المقابر
لعله يزور
أو يقتل الذين هربوا
من القمح
دون أن يتركوا له
إنذارات واضحة
أو اعتذارًا عن طول
الرحلة
خاصة وأن ملابسه
خفيفة
ولا يريد أن يقطع
ليله
فى سماع البكاء "
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة