كتب الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس تحرير جريدة السياسة، مقالا عن «الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم»، فى يونيو 1926، فبدأت معركة «الخلاف بين الدين والعلم»، وحسب كتاب «المعارك الأدبية» 1914-1939 لأنور الجندى: «اشترك فيها الدكتور هيكل ومحمود عزمى وطه حسين، وساجلهم الشيخ رشيد رضا، واتسع البحث ليشمل عددا من الصحف غير السياسة، وكتابا كثيرين منهم مصطفى عبدالرازق وفريد وجدى، وهاجمت «السياسة» رشيد رضا ورسمت له لوحة فى مقالاتها «فى المرآة»، واتهمته بأنه كان صنيعة الخديو والإنجليز، وأنه جامل كرومر «المندوب السامى البريطانى»، حين سب الإسلام، وقال له أنت تقصد إسلام اليوم، ووجد فى وثائق الشيخ محمد عبده ما يرضى الخديوى التقرب به إليه، وأمام سخونة الجدل كتب «هيكل باشا فى السياسة الأسبوعية» 3 يوليو 1926: نحن لن نعرض للمسألة لتثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم، ولكن لننفى الخصومة بين الدين والعلم، ونثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس هو فى الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منهما.
دخل طه حسين المعركة يوم 17 يوليو - مثل هذا اليوم - 1926، ونشرت السياسة، مقاله العلم والدين، يقول فيه: من الحق أنى فكرت فى هذا الموضوع، وكتبت فيه قبل صديقى هيكل وعزمى، وفى الحق أن السياسة اليومية نشرت لى فى ربيع سنة 1923، فصلا غضب له مولانا الشيخ بخيت المفتى غضبا شديدا، لأنه كان يمس مولانا الشيخ بخيت حين ألقى محاضرة فى الرد على رينان، رينان هو المؤرخ والكاتب الفرنسى الذى أشتهر بترجمته ليسوع، ودعا فيها إلى نقد المصادر الدينية نقدا تاريخيا علميا والعناصر الأسطورية الموجودة فى الكتاب المقدس.
يضيف حسين: فى الحق أيضا أننى كتبت فى العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلا آخر، كنت أريد أن أنشره فى السياسة أإبان تلك الضجة العنيفة التى أثيرت حول الشعر الجاهلى عام 1926، فتركت هذا الفصل فى زاوية من زوايا مكتبى، وقد تكون الحالة جديدة فى مصر ولكنها قديمة فى أوروبا.. أننى أعلن فى صراحة ووضوح أن العلم شىء والدين شىء وآخر، ومنفعة العلم والدين فى أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر، وحتى لا ينشأ من هذا العدوان فى الشرق الإسلامى مثل ما نشأ فى الغرب المسيحى.
يواصل حسين: صديقى هيكل يرى أنه ليس بين الدين والعلم من خلاف، وأن هذا الخلاف لا يمكن أن يكون، وإنما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم وهى خصومة على الحكم والسلطان لا على الدين.. أحب أن ألفت صديقى هيكل إلى أمرين عظيمى الخطر: الأول، أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء، يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، وإذن فبين الدين والعلم خصومة فى هذين الأمرين، ثم إن العلم لا ينفيهما أو هو لا يعرض بنفيهما أو إثباتهما، وإنما ينصرف عنهما انصرافا تاما إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.. هذا أمر والأمر الثانى هو أن الكتب السماوية لم تقف عند وجود الله ونبوة الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده لا يستطيع أن ينصرف عنها، وهنا يظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين ،وأمر ثالث هو أعظم من هذين الأمرين خطرا وأبعد منهما فى تحقيق الخلاف أثرا، ذلك أن العلم لم يقف عند هذا اللون من ألوان الخلاف، وإنما طمع فى أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه، وإنما يزعم أن له الحق فى أن يضع الدين نفسه موضع البحث وقد فعل.
يضيف حسين: «صديقنا هيكل لا يجهل أن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه وكما نظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة، وتتبع الجماعة فى تطورها ونتأثر بما يتأثر به الجماعة.. إذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.. صديقنا هيكل قرأ فيما أظن كتاب «دوركيم» فى الدين، وهو يعلم أن «دوركيم» ينتهى من بحثه الطويل الدقيق إلى نتائج مختلفة منها أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق تؤله نفسها «دوركيم» هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسى، وأحد مؤسسى علم الاجتماع الحديث 1858-1917.
يختتم حسين مقاله: إن الدين فى ناحية والعلم فى ناحية أخرى، وأن ليس إلى التقائهما سبيل، ومن زعم للناس غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع، والحق أن المخدوعين كثيرون، وهؤلاء المخدوعون هم الذين يحاولون دائما التوفيق بين العلم والدين.