رغم عبوره الخفيف على وجه العالم، بـ24 فيلمًا طوال سبع وثلاثين سنة، أنجز نصفها فى سنوات نشاطه المُبكِّر بين 1978 و1988، لا يُمكن أن يعبر قطار التأريخ للسينما المصرية محطّة محمد خان بالخفّة نفسها التى تقافز بها المُخرج الهادئ إلى حدّ الرتابة، والمُدهش إلى حدّ التوحّش.
شريط محمد خان بسيط إلى درجة إيهام الراصد بالعاديّة المُفرطة، ومُعقّد بما يكفى لأن يحار فيه النقّاد والمُتخصِّصون. شريطه لا يُشبه إلّا نفسَه، ولا يحفظ سوى آخر التوقيعات، أو بمعنىً أدقّ، يظلّ الفيلم من مُفتتحه إلى خاتمته مُعلّقًا فى رقبته وحده، مهما تجلّت عبقريات فريق عمله، ولمساتهم المختلفة والمُميّزة.
اشتغل المخرج الراحل فى كلّ مشروعاته تقريبًا على حكايات عادية للغاية، تقرأ الواقع على حرفٍ من التخييل، بمقادير يضبطها ميزان العدالة، وتتلاعب بها المراوحة بين التسلية والتعرية، على حبلٍ حريرىّ مشدود بغِلظة وإحكام، وبين الأمرين يُدمن الانحراف عن العاديّة فى تناوله للحكايات، رغم واقعيّته المفرطة، وإخلاصه للتفاصيل إلى درجة تُتاخم الرصد التسجيلى.
واقعية «خان» ليست رومانسيّة خالصةً كما ذهب عزّ الدين ذو الفقار، ولا اشتراكيّة نقديّة كبعض عطايا يوسف شاهين وتوفيق صالح وهنرى بركات، ولا تسجيليّة كأغلب أشرطة صلاح أبوسيف، هى مزيج بالغ التنوّع والثراء، وفسيفسائية عظيمة التداخل، تكنيكًا ودِلالةً وإحالةً وتأويلاً، فى شريط الصورة أو شريط الصوت أو إيقاع الحكاية أو أداء الرُّواة والمَروِى عليهم، طوال الوقت ستجده ناقدًا ومُتعاطفًا وثائرًا وإصلاحيًّا، يُعادى أبطاله ويُحبّهم وينتقدهم ويقتصّ منهم ولهم، فى تداخُلٍ سريعٍ ومُتلاحق بين خريطة المشاعر المتباينة.
كل «كادر» على شريطه لوحة تشكيلية مُكتملة الأركان، هكذا تتكرّر بَصمته من فيلمٍ لآخر، الكاميرا عينٌ حصيفة مُتمهِّلة، لا تأكل التفاصيل ولا تقتلها، كما يهتمّ اهتمامًا بالغ الدقّة بالتكوين، وحجم اللقطة، ومستوى تدفُّق الضوء، وتناسق الألوان، وكثافة الكُتَل والأحجام والمُوتيفات البصريّة، لذا يصعب تصوّر أن مناظره صنعةٌ خالصة لمُهندسها، أو أنّ الصورة تنتمى لمدير التصوير بقدر أكبر من انتمائها لروح «خان» وعينه المُحبّة للجماد والحىّ، والتى تُدمن الجمال المحسوب، حتى وسط تورُّطها فى الفوضى الخارجة على كل قانون.
ستجده دائمًا يقتصّ للأماكن رغم قُبح الواقع، فيُعيد «مَكيَجَتَها» بصريًّا بلقطاتٍ مُهندَسة برقّة، رغم قسوة المُفردات والتفاصيل، مُحتفيًا بالضيق عبر «كادرات» مُحكَمة الصنع والهندَمة والترتيب، ومُتغلّبًا على العشوائية باتّزان بصرىّ وزمنىّ مُدهش، ومقصٍّ عاقلٍ يصنع إيقاعًا سيمفونيًّا مُتناغِمًا، يخصّه أيضًا، ويُشبهه أكثر مما يُشبه مُونتيريه، بأريحيّته حينًا وتوتُّره أحيانًا، وتقطيعاته الحادّة والناقدة والمُنحازة واللاذعة والشتَّامة فى أحايين أخرى، بما يُطابق شخصيّته، بديناميكيّتها ونَزَقها الطفولى وفوضاها غير المُزعجة.
اختيار «خان» لمُمثّليه حقيقىّ ولامع. وباستثناء آحادٍ فى كل شريط، لا يتّكئ على قُدرات التمثيل الفذّة، على الأقل فى الجانب الأكبر من الحكاية، إذ يُفضّل الاعتماد على وجوه العاديّين وأرواحهم، مُقتنصًا الفنّ من مساحة الجوّانيات وما تُثيره الطاقة الشعورية للدراما البسيطة، المشحونة بالتطلُّعات والتناقضات والقوّة والضعف، ليكتسب لاعبوه مبُرِّر حضورهم ولمعانَه من عاديّته ولا استثنائيّته، وما إن ينتهى الشريط لن تجد إلا طعم «السكّر المُرّ» فى فمك، لا وجه فنّان ولا صوت فنانة.
يتراوح الطفل الشقىّ فى أعماله بين مدارس الواقعية وتوجّهاتها المختلفة، قديمها وجديدها، مُغلّفًا كل ذلك بأُنشودةٍ رومانسيّة شفيفة، يُصحابها فى الخلفيّة صوتٌ غنائىّ أو «تيمة» موسيقية، تُفجِّر الحنين وتُحكِمُ غلالتَه الحريريّة حول عُنق الحكاية ورُوح المُتلقّى، لتكون مَرثيّةً للواقع ومَن تورّطوا فيه، أو بُكائيّة على الماضى ومن حُرموا منه، لكنه يُحافظ طوال الوقت على فاصلٍ دقيق بين الغرق فى «النوستالجيا» إلى حدّ البكاء على الأطلال، أو الاستغراق فى قُبح الواقع إلى حَدّ تقطيع الجذور وتجفيف منابع الأرواح.
يجيد الرجل دائمًا الانتقال بين البواعث والمُنطلقات المختلفة والمُتداخلة، انتقالاً ناعمًا، بعينٍ مُتلصِّصةٍ، يحاول كثيرًا أن يمنحها طابع كاميرا المراقبة، عبر انفتاحها من زوايا غير مُعتادة، أو توجيه الممثّلين لتجاهلها، أو اعتماد الزوايا المُرتفعة الحادّة، وتثبيت الكادر دون اهتمام بالكُتَل والتكوينات والبشر الذين يحتلّون موقع الثِّقَل الدرامى أو البصرى، فكاميرا «خان» تُوثّق ثِقَل الواقع وغطرسته، بقدر انحيازها لأبطاله الدراميِّين، عبر تفكيك سلاسل القوّة والمركزية والتأثير، وإعادة إنتاجها بصريًّا، بخلق زوايا رؤية تسحق المُتغطرسين، وتُربِّت على أكتاف المُنسحقِين، كأنه «روبن هود» يسرق الأقوياء بالكاميرا؛ ليُعيد الاعتبار للضعفاء بنقشهم فى حدقة عين المُشاهِد!
كان «خان»، الذى تحلّ ذكرى رحيله الثالثة آخر الأسبوع المقبل، مُحبًّا للحياة حتى النخاع، ويعلم أن الأشجار العظيمة يبدأ اخضرارها من الجذر والطين. لذا دائمًا ما كان يقتصّ من المتن الاجتماعى والثقافى بمنظومة قِيَمه المُهيمنة، لصالح الهامش بما يُسبغ عليه من وضاعةٍ وضآلةٍ وتكوّرٍ فى الأركان المُظلمة، وذلك عبر مُواجهات مباشرة، أو حلبات مُصارعة يُرتّبها بعناية، وغالبًا ما يُطلق رصاصته الأخيرة من القلب، مُنتصرًا للحياة فى وجهها المُناضل، وقطارها الذى لا يتوقَّف ولا ينتظر أحدًا.
امتلكَ قلبًا رُومانسيًّا ناعمًا، وعقلاً رومانسيًّا خَشِنًا، وخطابًا هجائيًّا يتفجَّر بالوقاحة الليِّنة. رُبّما كان عاشقًا حريريًّا فى بيته وعلاقاته، وفَهدًا فاتِكًا فى إدارته وتعاملاته؛ لكنّه خلفَ الكاميرا كان مَزيجًا من الحالين، ناعمًا كمُراهق يكتشف مشاعره، أو فتاةٍ تُفاجئها الأُنوثة بغتةً، وجارحًا كمشرطٍ حادٍّ فى كَفّ جَرّاح تجاوز رَهبة الدّم، لذا لن تذهب إلى شاشته وتخرج كما دخلت، سيحفر أَثرًا فى وَعيك ونَدبةً فى رُوحك، ويتركك تتحسَّس الجُرحَ مُبتسمًا، مُمتلئًا بالضعف ومُكتفيًا بالشَّجَن، وشاكرًا ذلك الخنجر الرَّطِيب وتلك الرومانسيّة المُتوحّشَة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة