أول درس يتعلمه من يقرأ التاريخ، ويتابع السياسة، هو التوقف عن إطلاق أحكام مطلقة، وحتى فى التعامل مع تصرفات الآخرين من المجتمع، والتفرقة بين الشهادات المفردة والمنحازة، وبين الوثائق والكتابات متعددة الزوايا، وإذا كان الناس منقسمين فى تقييم أحداث قريبة عاصروها وعاشوا بعض تفاصيلها فما بالنا بتواريخ ترجع إلى مئات السنين أو عشرات السنين؟
أقول هذا قى سياق سلسلة بدأتها عن ثورة 23 يوليو، وهى أهم حدث طوال النصف الثانى من القرن العشرين، وما يقرب من الربع الأول للقرن الواحد والعشرين، وهذا الانقسام حول تقييم الحدث طبيعى، ودليل على أهميته وتأثيره إلى تجاوز مصر للدوائر العربية والأفريقية والإسلامية.
الاختلاف حول يوليو يجاوز النقاش إلى التناحر الأشبه بتشجيع كرة القدم. وبالمناسبة فإن الأحداث الكبرى فى التاريخ غالبا ما تستمر مثيرة للاختلاف، الثورة الفرنسية نفسها ما تزال تجد من يختلفون عليها، وهناك والثورة الروسية التى قامت على أساسها الاتحاد السوفيتى واجهت بعد 70 عاما أزمة وتفكك الاتحاد السوفيتى، وعادت الجدل حول الثورة الروسية وتقييم سياسات العقود السبعة.
لقد جاءت 23 يوليو والعالم كله يعيش فترة اضطراب وتحول كبرى، ويعيد النظر فى الكثير من المفاهيم السياسية والاقتصادية، ولهذا يفترض النظر إلى أن الضباط الأحرار الذين تولوا السلطة، وسط واقع مضطرب.
جاء ضباط يوليو وسط تحولات دولية كبرى، ولم تكن مصر وحدها تعانى من هذا الاختلال، كان العالم العربى ودول أفريقيا مازالوا تحت احتلال من بريطانيا وفرنسا وباقى الدول الاستعمارية، لم تكن مصر الملكية دولة كاملة الأهلية، بل كانت تحت حكم الاحتلال مع الملك، وبعد نضال استمر منذ بداية القرن وتجلى فى ثورة 1919، باستقلال منقوص ودستور يتم تعطيله مرات. وغليان سياسى تواصل فى الثلاثينيات والأربعينيات، تقوم حكومات لتسقط ويتصارع القصر مع حزب الوفد ويتحالف مع أحزاب الأقلية، ووصل أقصاه فى حريق القاهرة، لم يكن الوضع مستقر، بل كانت الدولة تعوم على بركان من الانقسام، وتواجه أزمة اقتصادية واجتماعية، يهدد بفوضى أكبر.
وسط هذا الواقع جاءت 23 يوليو، وجمال عبدالناصر بعد سبع سنوات فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية، التى انتهت بتقسيم أوروبا إلى معسكرين، وكانت تأثيرات الأزمات الاقتصادية على دول العالم تنكس فى صورة فقر وتردى اقتصادى، وأوروبا كانت تعيش آثار الدمار فى حرب تركت آثارها على العالم، وحرب باردة رفعت من صراع أيديولوجى ساخن، انقسمت أوروبا لمعسكرين، وحتى ألمانيا نفسها بقيت حتى عام 1989 مقسومة بين شطر شرقى تابع للسوفييت، وغربى مع أوروبا والولايات المتحدة.
وإذا نظرنا إلى واقع 23 يوليو بمفاهيم زمنها، نرى أن الثورة لم تكن أمرا سهلا، وما كان يمكن أن تحدث لولا أن مصر كانت على شفا الفوضى، ووسط هذا جاء ضباط فى بداية الشباب وما كان لهم أن يحققا الاستقرار لولا أن نخبة السياسة والاقتصاد كانت فى وضع ضعيف، والدليل أن هذه النخبة انضمت إلى السلطة فى بناء الدولة، وما كان يمكن أن ينجح عبد الناصر فى بناء نظام قوى، من دون الاعتماد على نخبة متعلمة ومثقفة، أتاحت له بناء هذه نظام اقتصادى واجتماعى، استمر، وعليه لم يخترع عبد الناصر الاشتراكية، وكانت الخيار الأقرب لأحوال دول مثل مصر تعانى من الضعف.
من هنا نقول إن تقييم ثورة 23 يوليو، يفترض أن يكون بمعايير عصرها وزمنها، وليس بمعايير اليوم، وهناك الكثير من التفاصيل فيما يتعلق بالممارسة السياسية والديمقراطية، ينظر لها فى سياقاتها التاريخية، خاصة أنها لم يكن يمكن لها البقاء من دون جهد سياسى، ومن دون خبرات الكوادر المهمة لنخبة تكونت فى الفترة الملكية، ولم يكن هؤلاء ينضمون إلى السلطة، ما لم يمتلكوا اقتناعا بأهمية بناء الدولة.
كل هذه الظروف توضع فى الاعتبار عند أى تقييم موضوعى لثورة 23 يوليو، بوصفها وأقعا، لا يجوز معه «لو»، وبالطبع كانت هناك أخطاء فى الممارسة، مثلما كانت هناك خطوات كبرى، ما تزال تؤثر فى الحاضر، ولهذا تبقى.