هناك تحول فى النظرة الأوروبية لموقع روسيا من خريطة النفوذ، ربما تكون إشارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى هذا السياق كاشفة عن واقع استغرق ما يقرب من أربعة عقود، وحتى مقارنة بالموقف الأوروبى والأمريكى من روسيا قبل عامين فقط. ماكرون قال: إن روسيا جزء من أوروبا ويفترض أن تكون ضمن أى مشروع أوروبى ودعا لإنهاء عهود عدم الثقة.
تستمد كلمات الرئيس الفرنسى أهميتها فى وقت تستعد بريطانيا فيه لمغادرة الاتحاد الأوروبى، خلال أكتوبر القادم، فى خطوة يتوقع أن تتبعها خطوات أخرى، ربما تغير من شكل ومضمون الاتحاد الأوروبى. كما تضمنت كلمات ماكرون إشارة إلى رغبة فى عدم استمرار التبعية الأوروبية للولايات المتحدة.
أمريكا ترامب تواصل تصعيد حروبها الاقتصادية مع الصين، بفرض رسوم إضافية على وارداتها وترد الصين بالمثل، والإجراءات الأمريكية تطال أوروبا، وتتعلق بصادرات فرنسية وألمانية وبريطانية، ولعل هذا هو ما دفع ماكرون للحديث عن «تبعية الدولار، وخسائر بسبب العقوبات الأمريكية على إيران»، بما يشير إلى ضيق التحركات الأمريكية، ورغبة فى انتهاج سياسات مختلفة.
هناك مساحة أصبحت تفصل أوروبا عن الولايات المتحدة، وتوجهات بالتقارب الاقتصادى وربما السياسى مع روسيا، وعدم الانضمام إلى الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، وهو ما يبدو سلوكا مختلفا عما كان عليه الوضع حتى الألفية، والسير خلف السياسة الأمريكية، وهو ما تم فى غزو العراق والحرب فى أفغانستان.
اللاعبون الكبار اليوم يمثلون قوى اقتصادية لا يمكن تجاهلها، وروسيا التى كانت حتى وقت قريب فى موقع الخصم لم تعد كذلك. فقبل شهور تصاعدت أزمة بريطانية مع موسكو، على خلفية اتهامات لندن لموسكو بمحاولة اغتيال وتسميم الجاسوس الروسى اللاجئ سيرجى سكريبال «66 عاما» وابنته يوليا «30 عاما» بعد تعرضهما لغاز غامض بالقرب من مركز تجارى فى سالزبورى جنوب بريطانيا، حيث يعيش الجاسوس السابق بعيدا عن الأضواء بعد خروجه من السجن فى روسيا ضمن صفقة تبادل شهيرة للجواسيس مع الغرب.
وأيضا كانت هناك أمريكية لروسيا بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية، تبعتها اتهامات بريطانية للروس بالتدخل فى استفتاء بريكست والتأثير على الناخبين وتحذيرات المانية مشابهة.
كل هذا يبدو اليوم من الماضى، تجسده كلمات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بالدعوة لاستعادة روسيا ضمن أى ترتيبات أوروبية. خاصة أن الحديث عن إنهاء التبعية للولايات المتحدة لا يتعلق بفرنسا، ويدخل ضمن أصوات أوروبية بالخروج من دائرة أمريكا، فى ظل تنافس تجارى واقتصادى ربما ينعكس على ترتيبات سياسية تعيد تشكيل عالم جديد متعدد القوى، وليس قطبيا وحيدا مثلما جرى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى.
الولايات المتحدة التى كانت قادرة على فرض إرادتها على أوروبا ، لم تعد اليوم بنفس القدرة، صحيح أنها لا تزال قوية بما يكفى، لكنها ربما لا تكون قادرة على حشد المجتمع الدولى، مثلما فعل جورج دبليو بوش فى ما بعد 11 سبتمبر، خاصة أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تحدث مرات عن تصفية قواعد أمريكية ضمن عمليات خفض الإنفاق ودعم الاقتصا، فيما رافق الانسحاب الأمريكى وجود روسى قوى فى سوريا ومساع سياسية محسوبة، بعد أن دعمت روسيا سوريا فى مواجهة التنظيمات الإرهابية، ولا تزال تدفع نحو حل سياسى، ينهى مرحلة من الفوضى.
وربما لا تكون روسيا أو الصين أو حتى أوروبا راغبين فى احتلال مكان القطب الأوحد، لكنهما يساهمان فى تأكيد نظام متعدد يتوزع فيه النفوذ سياسيا واقتصاديا.