أقام نادى الموسيقى حفلة غنائية فى فندق «سان استيفانو» بالإسكندرية، وسافر الفنان محمد عبد الوهاب من القاهرة للاشتراك فيها، بصفته من طلبة النادى المرموقين، حسبما يروى للكاتب لطفى رضوان فى كتاب «محمد عبد الوهاب، سيرة ذاتية»، مضيفا: «هناك غنيت قصيدة «جددى يا نفس حظك»، وبعد أن انتهيت من الغناء وشكرت الله على أن جنبنى الفشل فى أول حفلة حقيقية لى، صعدت إلى الغرفة التى كانت قد خصصت لنا فى الكازينو، ولم تمض بضع دقائق حتى جاءنى أحد الزملاء، وقال لى متهللا: «عارف مين سمعك فى الحفلة؟.. مين.. أحمد شوقى بك.. أمير الشعراء، ده عايز يشوفك.. تعالى أعرفك عليه».. كان ذلك فى أواخر أغسطس «مثل هذا اليوم» أوأوائل سبتمبر من سنة 1925، وفقًا لرجاء النقاش فى كتابه «لغز أم كلثوم وكلمات أخرى».
تردد عبد الوهاب ورفض فى البداية، لكنه خضع لضغوط زملائه، وذهب لمقابلته.. يذكر لرضوان سبب تردده: «اعتقادى بأن شوقى بك هذا رجل مؤذ ومتعجرف، وينطبق عليه المثل القائل: ابعد عن الشر وغنى له، أما الذى بعث فى نفسى هذا الاعتقاد، فهو حادث وقع بينى وبينه وبالتحديد فى عام 1921، ففى ذلك العام كنت أعمل فى فرقة عبدالرحمن رشدى مغنيا بين الفصول، وجاء ذات ليلة ليشهد التمثيل، وكانت الفرقة تقدم فى ذلك المساء - على ما أذكر-رواية«الشمس المشرقة»، وتناهى إلى سمعى من حديث الممثلين أن «شوقى بك» موجود فى أحد البناوير، ولم أكن على حداثة سنى فى ذلك الوقت أجهل من يكون «شوقى بك»، فقد كنت ألاحظ اهتمام الناس بالحديث عنه، ولذلك حاولت أن أجيد الغناء حتى أحظى بإعجابه، ولكن فى اليوم التالى فوجئ عبدالرحمن رشدى بزيارة «رسل باشا» حكمدار البوليس الإنجليزى، يقدم إليه شكوى شفهية ملخصها عدم السماح لصبى صغير مثلى بالغناء على المسرح، لأن فى ذلك منافاة لقواعد الأخلاق وضرورة حماية النشء من الاتجاه الفاسد».
كان عبدالوهاب وقتئذ عمره 11 عاما، فهو من مواليد 13 مارس 1910 حسب لطفى رضوان، ولم يكن هناك قانون يمنع مزاولة الصغار للغناء.. يؤكد عبدالوهاب: «طلب رسل باشا من عبدالرحمن رشدى بصفة شخصية أن يعمل على عدم إثارة القيل والقال فى هذا الشأن بمنعى من الغناء»، وهو ما حدث بالفعل حتى عام 1924.
هكذا كانت مشاعر عبد الوهاب العدائية نحو أمير الشعراء، لكنها تغيرت تماما حين أصبح أمامه وجها لوجه، وتحدث معه: «كنت أراه لأول مرة، ولم أر فيه خلال ذلك اللقاء عدوا ولا مستبدا، وإنما رأيت أمامى إنسانا قصير القامة وديعا وداعة الحمل، يبتسم فى رقة النسيم، ولاتكاد عيناه العميقتان تستقران من فرط الخجل فى اتجاه واحد، ذا شخصية رسمتها البساطة فى صورة محببة لقلب كل من يراه، وبالإجمال كان فيه كل ما يدل على عمق الإحساس ودقته.. لم يكن قلبه فى جسده مثل بقية الناس.. بل كان قلبا يمشى على قدمين».
يضيف عبد الوهاب: «بارنى شوقى بك، قائلا: «أنا عارف أنك متضايق منى.. لكن تأكد أنى ماعملتش كده إلا من أجل مصلحتك» يقصد تبليغ رسل باشا»، فقلت له: على العموم اللى كنت عايزه حصل، لأنى امتنعت عن الغناء أربع خمس سنين.. وأحسست على الفور أننا أصبحنا أصدقاء، رغم الفارق الواضح بيننا فى السن والبيئة والمركز، وعمل هو على أن يشعرنى بذلك، وقبل أن نفترق طلب منى أن أتصل به فى القاهرة فور عودتى».
ذهب عبدالوهاب إلى شوقى فى القاهرة فرحب به ترحيبا كبيرا، وصحبه إلى مطعم الكورسال فى عماد الدين لتناول العشاء، وبدأت صداقتهما، يذكر عبدالوهاب: «أحسست بحاجتى إلى هذا العقل الموجه، أكثر من حاجتى إلى قلبه الواسع، وأحس هو بواجبه فى سبيل توجيهى الوجهة الصحيحة، فأكثر من الاهتمام بواجب الرعاية نحوى، ولهذا لم يكن يمر وقت دون أن يلقننى شيئا، أو دون أن أختلس من غزارة علمه الوافر، فتح شوقى أمامى أبواب المعرفة، وغرس فى نفسى الشعور بلذة الابتكار والخلق.. كان صاحب الفضل الأول فيما نلته من نجاح، كما كان صاحب الفضل فى تكييف نظرتى إلى الفن الذى أمارسه، بل وإلى الحياة نفسها».
يذكر محمود عوض فى كتابه «محمد عبد الوهاب»، أن شوقى سأل عبد الوهاب ذات مرة: «هل تعرف بأنى قدمت لك شيئا فى حياتك؟، ويرد عبدالوهاب أنت ولى نعمتى»، فيرد شوقى:«حاشا لله أن أكون كذلك، ولكننى أعتقد أننى حاولت أن أبث فيك الثقة، وأن أوجهك نحو المجتمع بقوة، وأن أدفعك نحو المجد الذى تستحقه، وليس لى من جزاء هذا الصنيع المتواضع إلا طلب واحد، أن تغنى شعرى بعد موتى، وأن تغترف منه ما تشاء فإن خلودى فى أن يردد الشعب العربى شعرى، وأنت كفيل بأن تجعل الشعب يفهمه ويحبه ويردده».
وغنى عبد الوهاب لشوقى أغنيات أشهرها «النيل نجاشى» و«فى الليل لما خلى» و«اللى يحب الجمال» و«شبكتى قلبى ياعينى».