تمر اليوم ذكرى رحيل الشاعر الفرنسى الشهير شارل بودلير، صاحب الديوان الشهير "أزهار الشر"، حيث توفى فى 31 أغسطس 1867 عن عمر يناهز 46 عاما.
كان بودلير يعانى من عدة أمراض إلى جانب معاقرته الخمور وإدمانه الأفيون؛ ما أدى لإصابته بجلطة دماغية وشلله إلى جانب معاناته مع مرض الاضطراب الثنائى القطب ومات وحيدا منبوذا من المجتمع.
وكان الشاعر المصرى رفعت سلام نشر على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" صورة غلاف الطبعة الأولى لديوان أزهار الشر للشاعر الكبير شارل بودلير وكتب تحت عنوان "محاكمة "أزهار الشَّــــر": "هذا الكتاب مستشفى مفتوحة لكل العاهات العقلية، وكل انحلالات القلب، وليت ذلك كان من أجل علاجها، لكنها مستعصية.. وكان ممكنًا فهم أن خيال شاعر فى الثانية والعشرين من عمره قد انساق إلى مثل هذه الموضوعات، لكن لاَ يمكن أبدًا التماس العذر لرجل تجاوز الثلاثين من عمره على نشره كتابًا يحمل مثل هذه الفظاعات".
ذلك ما كتبه جوستاف برودان فى صحيفة "الفيجارو"، يوم 5 يوليو 1857 (بعد عشرة أيام من صدور "أزهار الشر" فى 1100 نسخة)، ليلفت انتباه وزارة الداخلية إلى كتاب بودلير، ويحفزها على ملاحقة الديوان قضائيًّا.
لكن بودلير يكتب، فى نفس الوقت، إلى أمه: "إننى سعيد تقريبًا لأول مرة فى حياتى، فالكتاب جيدٌ تقريبًا، ولسوف يبقى، هذا الكتاب، شهادةً على قرفى وحقدى على سائر الأشياء"، ويكتب إلى ناشره "بوليه - مالاسى" لينبهه إلى المصادرة الوشيكة لنسخ "أزهار الشر": "أسرع، فلتخبئ، لكن فلتخبئ جيدًا، كل الطَّبعة؛ فلتُبقِ فحسب على 50 نسخة لتغذية الحارس الشرس، العدالة. "
لم تفلح بعض المقالات النقدية المادحة للديوان فى إبعاد شبح المحاكمة (فى بداية العام نفسه، حوكمت رواية "السيدة بوفارى" لفلوبير، لكن القاضى أصدر حُكمًا ببراءة الرواية من الاتهامات الموجهة إليها)، والتزم "سانت-بيف"، أشهر نقاد ذلك الزمن، الصمت الكامل، دون أن يخط حرفًا لصالح بودلير، رغم مكانته الثقافية المؤثرة، وعلاقته الوطيدة بالشاعر. لكنه سيكتب - فيما بعد، عام 1862، بعد سنوات من المحاكمة - ما كان بودلير بحاجة إليه إبان المحاكمة: إنه "ليس سهلاً كما نظن أن نثبت للأكاديميين السياسيين ورجال الدولة كم من قصائد رائعة للغاية، فى أزهار الشر، بالنسبة للموهبة والفن؛ وأن نوضح لهم أن "البهلوان العجوز" و"الأرامل"- فى قصائد النثر الصغيرة للمؤلف - هما دُرَّتان، وأن السيد بودلير- على وجه العموم - قد وجد وسيلة بناء كُشك غريب، مزين بقوة، معذَّب بقوة- فى طرف لغة أرض مشهورة بأنها لاَ تصلح للسكنَى فيما وراء حدود الرومانتيكية المعروفة- لكنه فاتن وغامض. هذا الكشك الفريد المجبول بالترصيع من أصالة مكثفة ومركبة أُسمِّى ذلك "جنون بودلي".
وبعد يومين فحسب من نشر مقال "لو فيجارو" يتم بالفعل تقديم بودلير وناشريه إلى المحاكمة، بتهمة انتهاك الأخلاق العامة، وانتهاك الأخلاق المسيحية. وتطالب النيابة العامة بحذف 10 قصائد، ست منها بدعوَى إهانة الأخلاق العامة، وأربع بدعوَى إهانة الأخلاق المسيحية.
كان وكيل النيابة إرنست بينار - فى مرافعته - بالغ الدقة والوضوح فى مرافعته الجديرة حقًّا بالتأمل (كان قد سبق أن ترافع- فى بداية نفس العام- ضد رواية "السيدة بوفارى” لفلوبير، وخسرالقضية). وتحفل مرافعته - رغم كل شيء - بدروس بليغة خاصةً فى زمننا العربى الراهن. فلم يطالب بمصادرة الديوان ككل، بسبب عدد من القصائد التى يعترض عليها؛ بل طالب فحسب بحذف تلك القصائد من الديوان. ولم يخلط بين الديوان و"شخص" بودلير، فلم يطلق العنان لنفسه للتهجم الغاشم على شخص الشاعر، وكَيل الاتهامات العشوائية، الإنشائية غالبًا، له. بل ارتقى - فى معارضته لبعض القصائد- إلى حد أن شكَّل وجهة نظر "نقدية" - رفيعة حقًّا- فى "منهج" بودلير الشعرى، يمكن أن يحسده عليها النقاد المحترفون: " وشارل بودلير لاَ ينتمى إلى أية مدرسة. إنه لاَ يتبع إلاَّ نفسه. ومبدأه، نظريته، هى تصوير كل شيء، تعرية كل شيء. لقد نبش الطبيعة الإنسانية فى خباياها الأكثر حميمية؛ ولتحقيق ذلك، يستخدم نبرات قوية مؤثرة، ويبالغ فى ذلك وخاصةً فى تلك الجوانب البشعة؛ ويضخم منها فوق الحد، من أجل خلق الانطباع، الإحساس. هكذا يقوم- كما يمكن أن يقول- بنقيض ما هو كلاسيكى، ما هو تقليدى، الرتيب بصورة خاصة والذى لاَ يخضع إلاَن لقواعد مصطنعة".
بصيرة نقدية غريبة يستخدمها ضد القصائد المغضوب عليها، منطلقًا من فكرة حماية "الأخلاق العامة" من نتائج هذا النهج الشعرى، بضرب الأمثلة التفصيلية من كل قصيدة، متسائلاً: "أتظنون أنه يمكن قول كل شيء، تصوير كل شيء، تعرية كل شيء..؟". فالمنطلق- لديه- أن "الإنسان دائمًا- إلى هذا الحد أو ذاك- عاجز، وإلى هذا الحد أو ذاك هَش، وإلى هذا الحد أو ذاك مريض، حاملاً بالأولَى عبء سقطته الأصلية، إلى حد أنه يريد التشكيك فيها، أو نفيها. وإذا ما كانت تلك هى طبيعته الدفينة إلى حد أنها لم تبرأ بفعل جهود صارمة ونظام قوى، فمَن لاَ يعرف كم هو سهل أن يميل إلى النزق الشهوانى، دون أن ينشغل بالإرشاد الذى يريد المؤلف بثه فيه".
وينهى وكيل النيابة مرافعته لا بالمطالبة بالحدود القصوى من العقوبة، كما هو مألوف لدينا، بل برجاء إلى القضاة: "فلتتسامحوا إذن مع بودلير، الذى يمثل طبيعةً قلقةً بلا توازن. ولتفعلوا ذلك مع الناشرين الذين يحتمون بالمؤلف. لكن فلتقدِّموا- بإدانة بعض قصائد الكتاب على الأقل- إنذارًا أصبح ضروريًّا". فهو لا يستهدف إيذاء شخص بودلير، أو الحط من قيمته وقيمة كتابته (كمقدمة منطقية للمطالبة بمصادرته)، بل هي- بالتحديد- بعض القصائد التى يعترض على نشرها على "العامة".
أما "جوستاف شيه ديستانج"- محامى بودلير - فوافق وكيل النيابة على ما قاله من أن بودلير "أراد أن يُعرِّى كل شيء، وينبش الطبيعة الإنسانية فى خباياها الأكثر حميمية، بنبرات قوية مؤثرة، وبالغ فى ذلك وخاصةً فى جوانبها البشعة، مضخمًا منها فوق الحد."، لكن من أجل غاية مناقضة: "لأنه يريد أن يبث فيكم كراهيةً أعمق لها، وإذا ما كانت ريشة الشاعر تجعل لكم من كل ما هو قبيح رسمًا مفزعًا، فبالتحديد لتقدم لكم فيه المفزع".
ويأتى المحامي- بدوره- باستشهاداته الدالة على موقفه، ابتداءً من الاقتباس الذى يتصدر الديوان (على غلاف الطبعة الأولى) من أعمال ث. أجريبا دوبينى: "لَكِنَّ المَعرِفَةَ لَيسَت أبَدًا أُمَّ الرَّذِيلَة / وَالفَضِيلَةَ لَيسَت ابنَةَ الجَهل"، ثم قصيدة "إلى القارئ" الشهيرة، إلى افتراض غايات "أخلاقية" نبيلة للقصائد المغضوب عليها، والدفاع عنها بتأويلها فى هذا الاتجاه: " إنه يعرض عليكم الرذيلة، لكنه يعرضها عليكم مقيتةً؛ يرسمها لكم بألوان منفرة، لأنه يزدريها ويريد أن يجعلها مُزدَرَاة، لأنه يكرهها ويريد أن يجعلها مكروهة، لأنه يحتقرها ويريدكم أن تحتقروها".. مع الاستشهاد بموليير فى مقدمة "طرطوف": "ليس هناك ما يشذب غالبية الناس بأفضل من تصوير عيوبهم".
وفى 20 أغسطس 1857، يصدر الحكم: لم تَثبت التهمة فيما يتعلق بجريمة التعدى على الأخلاق الدينية. وفيما يتعلق بتهمة التعدى على الأخلاق العامة والسلوك الحميد، قررت المحكمة أن خطأ الشاعر، فى الهدف الذى كان يسعى إلى تحقيقه، وفى السبيل الذى سلكه، مهما كان الجهد الذى بذله فى الأسلوب، وأيًّا ما كان الاستنكار الذى يسبق أو يلى لوحاته، لم يمح الأثر الكئيب للوحات التى يقدمها للقارئ، والذى يقود بالضرورة- فى القصائد المتَّهَمَة- إلى استثارة الحواس بفعل واقعية فظة وخادشة للحياء؛ وهو ما يعنى أن بودلير وناشرَيه قد ارتكبوا جريمة انتهاك الأخلاق العامة والسلوك الحميد فى القصائد المعنية.
وتمت إدانة بودلير بغرامة 300 فرنك؛ والناشرَين بغرامة 100 فرنك؛ والأمر بمصادرة القصائد الست المتهمة بإهانة الأخلاق المسيحية: ليسبوس، نساء ملعونات، ليثيه، إلى تلك المبتهجة للغاية، الجواهر، تحولات مصاصة الدماء. (وفيما بعد، صدرت الطبعة الثانية من "أزهار الشر" (1861) خاليةً منها، بالفعل. لكن بودلير لم يتخل عنها، فقام بنشرها- مع مجموعة قصائد أخرى- فى بروكسيل، تحت عنوان "البقايا".
وفور صدور الحكم، يتلقى رسالة من فيكتور هوجو، المنفِى: "أزهارك تشع وتتألق كالنجوم.. ولسوف تتلقى أحد الأوسمة النادرة التى يمنحها النظام الحقيقي.. وما يقال من أن القضاء قد أدانك باسم ما يقال إنه الأخلاق لهو إكليل إضافى لك".
ويكتب إلى الإمبراطورة: "لكن الغرامة، وضخامة التكاليف اللامعقولة بالنسبة لى، تتجاوز قدرات فقر الشعراء مضرب الأمثال، برجاء التدخل من أجلى لدى السيد النائب العام".
وعقب الرسالة، يوافق وزير المعارف العمومية على منح بودلير إعانة بمبلغ 100 فرنك، باعتباره مترجم "حكايات عجيبة جديدة" لإدرجار آلان بُو؛ وهو ما سيتكرر عدة مرات تالية (ليتم تعويض بودلير بأضعاف أضعاف الغارمة)؛ فيما تقوم غرفة الجنح السادسة بتخفيض الغرامة المفروضة عليه إلى 50 فرنكًا.
ولن يغلق ملف محاكمة "أزهار الشر" تمامًا إلا عام 1949، حين تصدر محكمة فرنسية حُكمًا بإلغاء حُكم الإدانة السابق (ربما لم يشأ القضاء الفرنسى الإبقاء على وصمة إدانة "أزهار الشر" فى تاريخه؛ فقام بإزالتها بنفسه).
ما أكثر الدروس والعِبَر الصالحة لإثارة التأمل الآن، برغم مرورأكثر من قرن ونصف القرن على الواقعة، حيث يتحول ديوان "أزهار الشر" إلى أيقونة الشعر الفرنسى والعالمى، المترجمة إلى غالبية لغات العالم الحية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة