يبدو لي أن الأمل الأخير والوحيد لإنقاذ الصحافة كواحدة من أدوات الإعلام أصبح ممكنا الآن، من خلال ما طرحه الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا في مؤتمر الشباب بالعاصمة الإدارية، والذي يرمي في جوهره إلى ضرورة تطوير المحتوى الإعلامى وتطويره
إصلاح الإعلام ومنه الصحافة الورقية على وجه الخصوص في مصر ممكن، كما أشار الرئيس ، ونحن بحاجة لإرادة قوية، رغم أن الواقع يكشر لنا أنيابه ، فأغلب المؤسسات القومية فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية تعانى أزمات متعددة، بسبب التطور التكنولوجى وارتفاع أسعار الورق والمطابع، فضلا عن أزمات اقتصادية طاحنة، ما أدى بالضرورة إلى تناقص أعداد التوزيع لعدد من الصحف أو التحول إلى مواقع إلكترونية دون إصدار نسخ ورقية.
أعلم جيدا أن بعض القيادات الصحفية الحالية تتشدق بالأسئلة الصعبة والمستهجنة، علما بأن أحد منهم لم يكلف نفسه ملامسة الواقع الموجود على الأرض، ويعترف بأن نسب توزيع الصحف المصرية تراجعت بصورة ملحوظة بحسب آخر إحصاء لعام 2018 بسبب تدني مستواها المهني، ولم تكن أزمة التوزيع الوحيدة التى طالت الصحف المصرية الورقية بشقيها القومى والخاص، بل لايمكن أن نغفل الأزمات المالية التي كانت السبب الرئيس فى إغلاق عدد من الصحف، وهو ما أرجعه خبراء الإعلام إلى أن الصحافة الإلكترونية أصبحت البديل الأمثل باعتبارها الأرخص تكلفة من الصحف الورقية.
مستقبل الصحافة الورقية أصبح مرهونا الآن بالمهنية والإبداع الذي تفتقر إليه غالبية قيادات مؤسساتنا القومية، لقد أصبح الشعب المصرى على قدر من الوعى الذي يمكنه من فرز الغث من الثمين، قبل أن يقبل على شراء جريدته الصباحية، بعد أن فقدت طزاجتها، إذن علينا أن لا ندفن رؤسنا في الرمال ونعى جيدا حقائق الأمور التي تشير إلى عدم قدرة الصحافة القومية على التطور، ومجاراة الصحافة الإلكترونية إلا عن طريق الاهتمام بما وراء الخبر من تحليل ومتابعات وآراء.
لا تحيط الصحف المصرية الحالية ما شهدته الصحف العالمية من تطور كبير خلال الفترة الماضية، بعد انضمام وسائل جديدة لنقل الخبر وعلى رأسها الهواتف النقالة، وبحسب الأكاديمى "د.محمود علم الدين" فإن بعض الصحف العالمية المطبوعة اكتفت بإصداراتها الإلكترونية، موضحًا أن عدد متابعى الصحف الورقية على مستوى العالم بلغ 2 مليار و700 مليون، فيما يبلغ عدد متابعى الصحافة الإلكترونية قرابة 3 مليار و200 مليون شخص على مستوى العالم.. إذن نحن فى أزمة حقيقية تحتاج إلى إيجاد حلول عاجلة تحول دون الوصول حافة الزوال.
إلى وقت قريب كان لا يبدو لى أي أمل يلوح في الأفق نحو استعادة الصحافة الورقية لدورها المعهود بها، بل كنت أراها إلى زوال لامحالة، ليس بسبب ارتفاع أسعارها ولكن لعدم الانحيار إلى عناصر الكفاءة والمهنية في الاختيار، لكن الأمل تجدد مرة أخرى بإشارة الرئيس إلى ضرورة تطوير المحتوى الإعلامي ومنها الصحافة الورقية بالطبع، لكن ذلك أصبح مرهونا بإجراء عملية جراحية دقيقة من شأنها تحول تلك الصحف إلى التميز فى شكل الكتابة التى تناسب طبيعة الحياة المعاصرة.
ياسادة: الأمر يحتاج بالضرورة إلى حس صحفى روائي، استنادا لقاعدة "تولستوى" فى كتابة أحداث الرواية: على طريقة "دعنى أرى ماتراه"، وهو مبدأ مهم أرسته جريدة "وول ستريت جورنال" فى تدريب كودارها الجديدة، الأمر الذي مكنها من تجاوز أزمتها قبل عشر سنوات من الآن، وأيضا لابد لنا من الاهتمام أكثر بالرأى والتحليل والمتابعة الدقيقة، وصناعة ملفات احترافية تمس حياة المواطن اليومية، لكن بعضا من هذا وليس كله يتطلب بالأساس اختيار كوادر صحفية - هذه المرة - تكون واعية بحجم الكارثة التى تتربص بنا، كوادر مهنية تدرك حقيقة العصر، حتى يستطيع الورق منافسة الفضاء الإلكترونى الذى يمتاز بالانتشار السريع.
كفى ضياعا واستهتار بمهنة القلم التي عجزت عن حل أزمتها في وقت يشهد أكبر تطور في عصر الميديا، الأمر الذي انعكس على حرمان الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يعرفوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشأوا في عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية و"السمارت فون"، وبالتالي توجد أزمة حقيقية في المحتوى، وإذا لم تنتبه الصحف الورقية إلى ضرورة أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة.
لدي يقين راسخ الآن أن إنقاذ مؤسساتنا الصحفية وخاصة القومية منها، ممكن شريطة حسن الاختيار، خاصة تلك المؤسسات تملك من المواهب والكفاءات الصحفية القادرة على قيادة الدفة والوصول لبر الأمان، فقط إذا اعتمدنا على الصحفيين الحقيقيين فى قلب المشهد المرتبك، أولئك الموهوبين الذين ينتمون إلى المهنة بشكل حقيقى ويتمتعون بالكفاءة والمهنية التى تصب فى مصلحة تراب هذا الوطن.
إن النار التى تستعر حاليا فى جسد صاحبة الجلالة تأتى للأسف من مستصغر الشرر - أقصد صغار المهنة ممن لم يتربوا فى كنف الكبار- وهو الذى ضرب البنية الأساسية لمهنة تضيع تارة بفعل التكنولوجيا، وتارة أخرى بفعل التفاصيل الصغيرة مثل ترديد مقولة "عدم وجود كفاءات حقيقية تستطيع تحمل المسئولية.
صحيح أن البعض يعتقد أن ما يحدث للصحافة الورقية من تراجع وانحسار ليس بمعزل عن الأزمة المالية العالمية الحالية، التى قد تكون مؤقتة وعابرة، ولكن التحدى الحقيقى المتواصل الذى تواجهه الصحافة المطبوعة فى العصر الرقمي، هو التغييرات الجذرية فى عادات القراءة وأذواق الأجيال الجديدة، التى تتوجه بقوة صوب الصحافة الإلكترونية، فالكثير من القراء الذين كانوا يواظبون على قراءة صحفهم المفضلة مع قهوة الصباح تحولوا إلى استخدام شبكة الإنترنت لمتابعة الأخبار اليومية ومعرفة أحدث المعلومات من مصادر متعددة، وخاصة فى مواقع التواصل الاجتماعى والمنتديات.
ومن هنا يصبح لازما علينا مواجهة تلك الحقائق المرة بقيادات صحفية تتمتع بالكفاءة والمهنية أولا، وتتفهم طبيعة العمل فى بيئة جديدة تفرض ضرورة تطوير أدواتنا بما يتناسب مع قارئ جديد تغيرت عاداته، وزادت احتياجاته لخدمة حقيقية يمكن أن يدفع مقابلها برضى كامل فى ظل زيادة الأسعار الحالية للصحف، كما أنه لابد لنا أن نراعى حقيقة مهمة وجديدة فى نسختنا الإلكترونية الصادر عن الصحيفة الورقية، مؤداها أن معظم المتصفحين من الفئة الشبابية لا يهتمون كثيرا بالمقالات الجادة والتقارير المطولة ولا بتفاصيل الأخبار، بل يلقون نظرة عابرة على العناوين فى الصفحة الأولى.
وأخيرا ، أظن أن الصحافة الورقية عصية على الموت، ولا يزال هناك عدد كبير من الناس ومن ضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين، الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة والقلم ، لا يمكنهم الاستغناء عن الصحافة المطبوعة والنشر الورقى طيلة حياتهم، إضافة إلى مئات الملايين من القراء الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمى ولا يتعاملون إلا مع الورق و الصحافة الورقية التي لعبت أدورا مهمة في ترسيخ الهوية والدفاع عن مصر عبر تاريخها الطويل.