سرت الشائعات أن قائد المجاهدين فى ليبيا عمر المختار مات من أثر جرح أصابه فى القتال، وشائعة أخرى تقول إنه مات مسموما من شخص أرسله الاحتلال الإيطالى، حسبما يذكر الجنرال «غرازيانى» الحاكم والقائد العسكرى لبرقة فى مذكراته «برقة الهادئة» ترجمة إبراهيم سالم بن عمر «دار مكتبة الأندلس» بنغازى، طبعة أولى 1973».
اشتهر «غرازيانى» تاريخيا بلقب «جزار برقة»، لكنه فى مذكراته لا يخفى انبهاره بعدوه الأول عمر المختار.. يقول: «مهما تكن هذه الشائعات سارية، فقد تحقق وجود عمر المختار بعد معركة «وادى السانية» فى أكتوبر 1930، حيث أصيب جواده وكاد يقع أسيرا فى يدينا، والدليل على ذلك أنه وجدت على أرض المعركة بعد انتهائها نظارته ذات الأجنحة الذهبية وجواءها الفضى».. يضيف: «الآن تحصلنا على النظارات، وسيأتى اليوم الذى نتحصل فيه عليه، وقد وضعنا منذ السنة الماضية 1929 مبلغ مائتى ألف فرنك مكافأة لمن يأتى بعمر المختار حيا أو ميتا».
كان «غرازيانى» منذ مارس 1930 حاكما وقائدا عسكريا للاحتلال الإيطالى فى برقة، ضمن عموم الاحتلال الإيطالى لليبيا.. يذكر «نقولا زيادة» فى الجزء العاشر من كتابه «ليبيا من الاستعمار الإيطالى إلى الاستقلال»: «فى أكتوبر 1912 أصدر ملك إيطاليا منشورا لأهل ليبيا، يذكرهم فيه أن بلادهم خاضعة خضوعا تاما للسيادة الملكية الإيطالية»..جاء اختيار «غرازيانى» لمهمته الجديدة، بعد فشل إخماد الكفاح المسلح الذى يقوده عمر المختار المولود فى ”البطنان-برقة-الجبل الأخضر» عام 1862.
بلغ «المختار» ذروة كفاحه المسلح منذ عام 1923.. وكان «الجبل الأخضر» فى «برقة» مركز جهاده.. يصفه «غرازيانى» بإعجاب قائلا: «معتدل الجسم، عريض المنكبين، شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفا ثقافة علمية ودينية، له طبع حاد مندفع يتمتع بنزاهة خارقة، لم يحسب للمادة أى حساب، متصلب ومتعصب لدينه، وأخيرا كان قصيرا، لا يملك شيئا من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه، رغم أنه وصل إلى أعلى الدرجات.. كان من المجاهدين الكبار لما كان له من مكانة مقدسة بين أتباعه ومحبيه.. يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسى وشديد، متعصب للدين، ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد أنه يكرهنا كثيرا، وفى بعض الأوقات يسلط علينا لسانه، ويعاملنا بغلظة مثل الجبليين، كان دائما مضادا لنا ولسياستنا فى كل الأحوال، لا يلين أبدا ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع فى صالح الوطن العربى الليبى، ولم يخن أبدا مبادئه فهو دائما موضع الاحترام رغم التصرفات التى تحدث منه فى غير صالحنا.. كان حريصا على عقيدته، يواجه كل من يتعرض لها بسوء، يكره الدخلاء ويحارب كل من يعتدى على وطنه، ولا يقبل أى تدخل من أى أجنبى فى قضية وطنه العربى وبالأخص ليبيا، يكره الأتراك لأنه يعتبرهم دخلاء وأجانب عن وطنه».
هذه السمات الشخصية لعمر المختار التى يذكرها عدوه الأول «غرازيانى» توضح لماذا كان هذا المجاهد استثنائيا فى تاريخنا العربى، ووثق فيه شعبه فأعطاه كل شىء يعينه على مهمته، مما يفسر فشل حيلة رشوة المائتى ألف فرنك لمن يبلغ عنه.. يذكر نقولا زيادة: «مع أن الذين حملوا السلاح جماعات صغيرة فإن كل برقاوى وبرقاوية كان مجاهدا فى تلك السنوات».. يضيف: «فى هذا القتال المرير انصرفت المشاجرات والخلافات والحزازات القبلية التى تسيطر فى حياة البدو عادة، فلم يستطع الإيطاليون أن يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى العرب ليفرقوا بين الصفوف».
استخدم «غرازيانى» كل الوسائل الوحشية لإخماد كفاح الليبيين المسلح..يذكر زيادة: «أقفل غرازيانى الزاويا السنوسية، وصادر أملاكها، ونفى شيوخها، وعطل مرافق الحياة فيها، ولكن هذا كله كان أمرا بسيطا بالنسبة إلى معسكرات الاعتقال التى أقامها، أقصى غرازيانى 80 ألفا من البدو رجالا ونساء وأطفالا إلى برقة البيضاء، ومنطقة سرتة وهى أشد أجزاء برقة الغربية قحولة، وأرسل معهم 600 ألف رأس من الماشية، وكان ذلك فى صيف 1930، وانتشرت الأوبئة بين السكان، فزهقت أرواح آلاف الناس، وهلكت المواشى بسبب الحر وقلة الماء، وأراد أن يقطع المؤن والمساعدات من مصر، فأقام حاجزا من الأسلاك الشائكة بين القطرين طوله نحو 300 كم».
تحققت أمنية «غرازيانى» صباح 11 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1931، حيث تلقت فيه حكومة الاحتلال الإيطالى فى ليبيا برقية من متصرفية الجبل الأخضر، نصها: «بالقرب من سلنطة، فرقة الفرسان «الصوارى» قبضت على وطنى وقع من على جواده أثناء المعركة، وتعرف عليه عساكرنا بأنه عمر المختار، ونظرا للخبر المهم من أجل التأكد والتحقق، أمرت الحكومة متصرف الجبل «الوجيه داود باتش» فجهزت طائرة خاصة لنقله إلى «سلنطة» على الفور للتعرف على شخصية الأسير وتثبيت هويته، إن كان هو رئيس الثوار عمر المختار أم لا؟».
بعد أن تأكد الجميع أن الأسير هو عمر المختار سرى الخبر سريان البرق بوصف «غرزيانى»، وصدرت الأوامر بنقله إلى «سوسة» ومنها إلى بنغازى عبر الطراد الحربى ”أورسيتى”.. يؤكد «غرازيانى»: «أثناء الرحلة تحدث معه بعض السياسيين التابعين لإدارتنا، ووجهوا إليه بعض الأسئلة، فكان يجيب بكل هدوء، وبصوت ثابت، وقوى دون أى تأثر بالموقف الذى هو فيه».. فماذا قال؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة