كنا زمان فى قريتنا الطيبة الوادعة التى تسكن فى حضن "البحر الصغير" أسعد أطفال الدنيا، فى ليالى الصيف نلهو ونستمتع بالكورنيش البسيط الذى تزينه أشجار الكافور والجزورين والنخيل يتمايل فى خيلاء بفعل النسمات الرطبة التى تعرف طريقها إلى قلوبنا الخضراء آنذاك.
كانت الطبيعة بعطرها الساحر تحيل ذلك الليل إلى احتفالية رائعة بفعل فنون الذكاء واللعب بالألفاظ والمعلومات، ولم يكن لنا زاد سوى قليل من الكتب التى نوفر نقودها من زاد أهالينا الذين أكل الدهر من أكتافهم وشربت دماءهم الطاهرة تربة الأرض الطيبة فى تلك البقعة الطيبة من ريف مصر العامر بالإيمان والبهجة التى تسكن كل جوانب قريتنا.
كانت بيوتنا أجمل بيوت الدنيا فى دفئها وحنوها البالغ، رغم أنها مصنوعة من الطين اللبن تظلها العروق الخشبية، ولم يعرف "التكييف" طريقاً لها ولم يحدث يوماً أن سكنت بجوار إحدى نوافذها خوفا من القضبان الحديدية التى تزينها، تحت سقفها عرفت أجمل حكايات الجدة عن الجنية السحرية، والمارد وشبح شيخ المسجد الكبير الذى وقع فى غرام تلك الجنية التى تنتمى إلى جنس الشياطين.
وعلى الرغم من بساطة وشظف العيش إلا أن كسرة خبز صغيرة مع قليل من الجبن الأبيض كان أجمل من المحمر والمشمر وغيره من ملذات أهل الذوات.. يكفى أن الابتسامة كانت لا تفارق وجوهنا والدم ينبض بحيوية فى عروقنا، ولم نعرف وقتها أمراض القلب والصدر والكلى والطحال وغيرها من الأمراض العضال، بل يندر جدا أن تجد مريضاً نفسياً يجوب الشوارع والطرقات أو يقف على النواصى وقمم الحارات كما يحدث الآن آناء الليل وأطراف النهار.
تطاردنى كل تلك الذكريات الجميلة ونحن نحتفل بالذكرى 67 لعيد الفلاح عيد البسطاء والمنتجين، الذى واكب صدور قانون الإصلاح الزراعى عام 1952 والذى اعتبر فيما بعد عيدا للفلاحين، وفى هذا الصدد قال "حسين عبد الرحمن" نقيب الفلاحين إنه بعد 67 عاما أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى إشارة البدء للنهوض بالقطاع الزراعى وأعطى التوجيهات لتحسين أحوال المزارعين، فجاءت توجيهاته وقراراته لتصلح ما أفسده الدهر وما أهمله المسؤولين خلال السنوات السابقه، مشيرا إلى بعد أن تعرض الأراضى الزراعية للتعدى والتقلص اتى مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان تعويضا لهذا التقلص وبداية ثورة على الصحراء لتحويلها إلى أرض خضراء.
وأضاف "عبد الرحمن" أن القيادة السياسية اهتمت بهذا القطاع اهتمام منقطع النظير فكان مشروع إنشاء 100 ألف صوبة زراعية، أضخم مشروع زراعى من هذا النوع بالشرق الأوسط ليوفر المنتجات الزراعية للمواطنين طوال العام ويضيف عائد اقتصادى كبير للقطاع الزراعى ويغير طرق الزراعة القديمة لنواكب التطور الزراعى الحديث.
وأكد عبد الرحمن أنه للتخفيف على الفلاحين أمر الرئيس بتأجيل تحصيل ضريبة الأطيان الزراعية لمدة ثلاث سنوات، كما جاء المشروع الكبير لإنشاء الصوامع ليقلل الفاقد ويحمى الغلال من العوامل الجويه ويحمى المواطنين من سوء التخزين، حيث كانت تتعرض الغلال فى الشون القديمة للفطريات والقوارض والأتربة والعوامل الجوية، مما كان يعرض صحة المواطنين لخطر الإصابة بالأمراض.
وأشار عبد الرحمن إلى أن البدء فى إنشاء صندوق تكافل زراعى يحمى الفلاحين من الكوارث الطبيعية ويعوضهم فى حالة الخسارة أكبر دليل على أن الفلاح يتربع فى قلب القياده السياسية، مشيرا إلى الاهتمام بكل مستلزمات الإنتاج الزراعى من تقاوى وأسمدة ومبيدات وآلات زراعية حديثة فكان الاهتمام بمركز البحوث الزراعية وإنشاء قناطر أسيوط الجديدة وإقامة مجمع العين السخنة لإنتاج الأسمدة وتطوير مجمع موبكو للأسمدة وتعديل التشريعات الزراعية لتواكب التغيرات الزراعية الجديدة.
ولعل اهتمام الرئيس السيسى هنا ينطلق من نفس القاعدة الإيمانية الراسخة عند الفلاح المصرى القديم، ذلك الذى آمن بالتوحيد ووجود إله أعظم، فقد آمن "السيسى" بأن الزراعة لها مالها من شأن، ولها من شئون وشجون عند الآلهة العظيمة فى مصر القديمة، فهم كانوا يرعون شئون الزراعة، ومنهم "أوزيريس" إله الزراعة والخضرة، والبعث المرتبط بفيضان النيل، وزوجته "إيزيس" رمز الوفاء لزوجها ورمز الفلاحة المصرية والسحر والجمال.
ولعل الإلهة "سخت" إلهة الحقول، واسمها مرسوم على رأسها وهى تحمل مائدة قرابين عليها البيض والطيور وزهور اللوتس، وأسفلها زهور اللوتس والسمك، هى نفسها الإلهة "إيزيس"، كما أن الدلالة ذاتها تنسحب على إله الحبوب "نبر"، وله أيضا رسومات، وتراه متوجا بسنابل القمح ويحمل فى يديه حزمتين من القمح، وكذلك إله فيضان النيل "حابى" ونشاهده وهو يحمل مائدة القرابين التى بها خيرات الحقل ونهر النيل.
كما نرى نقوشا ورسوماً لـ"مينا" وهو يوحد القطرين "الصعيد والدلتا"، تماما كما نجح "السيسى" فى توحيد طوائف الشعب المصرى، ووطد أواصر الصلات مع محيط مصر العربى والدولى، فى لحظة فاصلة من عمر الوطن، ليكتب اسمه بحروف من نور فى سجل التاريخ الحديث زعيما وطنيا، وبطلا أسطوريا فى ساحات الوغى والنضال ضد جحافل الإرهاب الأعمى، فى نفس الظرف التى تنطلق فيها كبرى المشروعات القومية وفى القلب منها الفلاح.
ومن بشائر الخير القادمة على جناح الاهتمام بحياة الفلاح المصرى حاليا أن القطن زادت إنتاجيته هذا العام ليعود مرة أخرى إلى الواجهة، ويعيد الثقة للفلاح من جديد، فبعد أن كان إجمالى المساحة المزروعة من القطن فى مصر يصل إلى 2 مليون فدان، وصلنا للعام قبل الماضى إلى 120 ألف فدان، وكان ذلك نتيجة حدوث اختلاط بين الأصناف والعزوف عن شراء القطن المصرى واستبداله بالمستورد، لكن القطن المصرى بدأ يتعافى الموسم الماضى، حيث بلغ إجمالى المساحة 220 ألف فدان، وقد وصل هذا الموسم ما يقرب من 300 ألف فدان، ومن المتوقع زيادة المساحة حتى الأول من يونيو القادم.
وفى نفس إطار الاهتمام من جانب الدولة، كشفت وزارة قطاع الأعمال العام عن تفاصيل منظومة جديدة للقطن المصرى، سيبدأ تطبيقها تجريبًا فى محافظتى الفيوم وبنى سويف، وبحسب بيان من الوزارة فإن اللجنة الوزارية المشكلة للنهوض بالقطن انتهت إلى وضع نظام تجريبى يبدأ تطبيقه فى محافظتى الفيوم وبنى سويف هذا الموسم، تمهيدا لتطبيقه على مستوى الجمهورية فى موسم 2020، وقد تم وضع العديد من الضوابط الفنية والإدارية فى هذا النظام والتى من شأنها رفع جودة القطن المنتج وإعادة القطن المصرية إلى سمعته ومكانته العالمية المتميزة.
قبل قرنين من الزمان، وتحديدًا فى العام 1816، استجلب محمد على، والى مصر آنذاك، بذرة القطن من الهند، لأول مرة إلى مصر، بعد اقتناعه برأى رجل فرنسى يُدعى "غوميل"، بأهمية القطن كمحصول إستراتيجى، وعصبا فى تأسيس مصر الحديثة، ومن هنا دخل القطن كشجرة جذبت بفتنتها من اقتناها، ولأنه كان مقدرا لمصر العظيمة أن تكون رائدة العالم فى إنتاج الأقطان لاسيما الفاخرة منها، زحفت هذه الشجرة وتثبتت بأرض مصر السمراء ونمت وجلبت معها الرخاء حتى شملت أرض الوادى من أقصاه إلى أقصاه، وباتت مقدرات المزارعين وخطط حياتهم كبيرهم قبل صغيرهم تعتمد فى المقام الأول على ما سوف يدره عليهم هذا الذهب الأبيض الذى فى شكله الصفاء والنقاء.
ولقد أبى "القطن" صاحب أكبر الملاحم الغنائية فى التاريخ المصرى قديمه وحديثه أن يكمل المشوار فى عهد الفلاح الجديد، القادم بعداءات تكنولوجية مهلكة، فبعد أن كان القطن مصدر فخر الفلاحين حيث كان الفدان فى ستينيات القرن الماضى ينتج "18- 24 قنطار للفدان فى الموسم الواحد"، عرفت عجلات "عربات الكارو" طريقا سريعا وعودة مبكرة للبيوت.
باختصار لأنها لم تعد تحمل فى رحلة العودة، بعد أن تودع الشمس فى رحلة غروب قرصها القرمزى فى مواسم جنى القطن سوى "كيس أو كيسين" لا تزن أكثر من "خمسة إلى 7 قناطير للفدان" فى ذات الموسم، وهى حصيلة لا تكفى كساء أفراد أسرة أو تحقق طموحا فى زواج أحد أفرادها ، وذلك كله بعد انقلبت الموازين المغايرة للناموس الطبيعى فى حياة الفلاح.
سرقت عيدان الحطب السمراء الفرحة من فوق جبين الفلاح خلال عشرات من السنين الماضية، بعد أن كانت أرضه مفروشة باللون الأبيض الصافى تزهو به قبل موسم جنى القطن، فقد ذبل عوده وأصابته أمراض التخمة، واصفر لونه كلون غيطان الذرة، عندما تشى بخسران مواسمها.. يا لها من أيام خوالى حين كان القطن المصرى فى رحلة إنضاجه يدهش عيوننا وعيون الدنيا من حولنا مرتين: مرة عندما يظهر النوار الأصفر مبشرا بصحة المحصول، متمايلا مع نسائم العصارى فى دعة وتيه، مشنفا أنوفنا برائحة الخير الوفير.
ومرة أخرى عندما يميل لونه إلى الاحمرار إيذانا بقرب موسم الجنى فى رحلة تحول ركامه من الحطب مع تفتح اللوز متحولا إلى البنى القاتم، تعلوه سحابات القطن الأبيض الناصع لتحيل الغيطان إلى بساط حاني، تطرب له الفتيات بقوالب من الفلكلور العذب، على إيقاع غير مضطرب، غير مباليات بخربشات الحطب الناشف، ولا تلقى وجناتهن الحمر بالا بحرارة الشمس المصلوبة على أعناقهن طوال النار، فى لحظات فرح قطف الثمر، فقد كان مصدر سعادتهن، وسترهن من صلف الظروف ونوائب الأيام.
أسعدتنى أيضا تلك الأخبار السارة التى ذكرها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، برئاسة اللواء خيرت بركات، أن صادرات مصر من القطن بلغت 510 آلاف قنطـار خلال الفترة (مارس/ مايو 2019) مقابل 160 ألف قنطار لنفس الفترة من الموسم السابق بنسبة زيادة قـدرها 218.8% نتيجة لزيادة إنتاج القطن، وقال وزير الزراعة انه وفقاً لأعمال الحصر النهائى للمحصول وتقدير الإنتاجية الفدانية للحقول النموذجية بالمحافظات التى طبقت فيها توصيات الحملة القومية للنهوض بإنتاجية المحصول.
لقد بلغ متوسط الإنتاجية نحو 10.01 قنطار للفدان، مقابل نحو 8.4 قنطار للفدان بحقول الجوار المماثلة لها، أى بزيادة قدرها حوالى 1.59 قنطار للفدان، بنسبة بلغت 18.8%، وهو أمر مبشر بقدوم الخير على الطريق فى ظل اهتمام متزايد من جانب الرئيس السيسى باسترداد سمعة القطن المصرى من جديد.
إنها باختصار حكاية استعادة مهنة الفلاحة فى مصر التى كانت قد انهارت نتاج تجريف حياة الفلاح، وهو الذى أذهل الأشجار نفسها يوما فى ابتكار أساليب الرى، لكن الظروف دفعته إلى سنوات الهجر والغربة والضياع لتجريف أرضه بصورة انتحارية منظمة، فى ظاهرة لم تتمكن الدولة بكامل قوتها وجبروتها من ردعها طالما بقيت القوانين الجائرة، والإهمال المتعمدة، والتنكيل بصانع أكبر حضارة فى التاريخ فى دهاليز السجون على أثر الديون المتراكمة.
وها هو الرئيس السيسى يأتى اليوم بطاقة أمل جديد، بعد كل تلك الرحلة من المعاناة بمظلة قوانين ترفع عن كاهل الفلاح المصرى ذلك الظلم المصلوب على رأسه لعقود طويلة، ليعيد له الثقة من جديد، بعد تخليه وعدم انصياعه للدورة الزراعية، ليعيد هيبة القطن ذلك الذهب الأبيض، الذى كان ومازال العمودى الفقرى فى حياة الفلاح، حيث يرهن عليه كل متطلبات حياته من مأكل وملبس وزواج أبنائه وغيرها من أمور حياته، كان يؤجلها "على الإيراد" - هكذا يسمى نهاية موسم جنى القطن - باعتباره الموسم الوحيد الذى يوفر السيولة المالية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة