يبقى دوماً شغف أهالينا في الجنوب باللغة، فهم أرباب الفصاحة وملوك البيان، ورغم وجود عدد ليس بالقليل لا يجيدون القراءة والكتابة، إلا أن لغتهم مازالت سليمة، ولسانهم لا ينطق إلا بالجمل المنمقة، ذات الكلمات العذبة التي تستحسن سماعها.
وبالرغم من إنتشار أغاني المهرجانات والـ"دي جي"، التي أطلت برأسها على مجتمعنا، وأصاب رذاذ منها ريفنا المصري، خاصة في ظل تحرك مركبات التوك توك، التي تطلق العنان لأغاني المهرجانات، إلا أن أهالينا في الصعيد مازالوا يجيدون معسول الكلام، وينظمونه شعراً ونثراً، لا فرق في ذلك بين متعلم وأمي، فاللغة ملك الجميع، يتوارثوها أب عن جد.
وتبقى السيرة الهلالية واحدة من أهم وأفضل ما يتغنى به أهالينا في الصعيد، فيحفظون الآف الأبيات منها، تجمعهم جلسات السمر ليلاً بالقرب من نهر النيل، أو بجوار الزراعات، يرددون أبياتاً منهم، وينصت الجميع للاستمتاع بها، خاصة من كبار السن الذين يحفظون أبياتاً عديدة منها.
والدي أحد هؤلاء الحافظين للسيرة الهلالية، بالرغم من كونه لم يتلقى أي قسط من التعليم، لكنه شغوف بالسيرة وتدرج أحداثها، يحفظها عن ظهر قلب، ويجعلك وأنت تسمعه تقف على بطولة أبو زيد الهلالي، الذي أنكر والده "رزق" نسبه واتهم أمه "خضرة" بالزنا وطردها من مضارب القبيلة وابنها لم يتجاوز 7 أيام، فتربيه أمه على الفروسية من صغره بعد أن تلجأ لحاكم مدينة العلامات الملك "فاضل الزحلاني" وتظهر على "أبوزيد" علامات النبوغ وهو طفل صغير، ويستطيع في طفولته أن يخوض صراعا مع بنى عقيل أعداء أهله بنى هلال، حتى يستعين مشرف العقيلي على أبوزيد بعدد من فرسان بنى هلال ومنهم عم أبوزيد الأمير عسقل الذي سأهم في طرد خضرة الشريفة من مضارب الهلالية، ويحارب أبوزيد فرسان الهلالية ويقتل عمه الظالم "عسقل" ويأتي لأمه بحقها بعد أن يعنف أباه "الأمير رزق بن نايل" ويحكم على بنى هلال أن تعود أمه خضرة الشريفة على بساط من حرير تأكيدا لبراءتها، فضلاً عن قصته مع الزناتي خليفة وكواليس حبه لـ"الجازية"، وصراعه مع "دياب بن غانم"، وقصص أخته شيحة المشهورة بالدهاء والاحتيال، ، وقصة زهرة ومرعي، وغيرها من السير المتراصة التي تشكل في مجموعها ما يعرف بسيرة بني هلال، وتمتد لتشمل تغريبة بني هلال وخروجهم من ديارهم في عالية نجد إلى تونس.
الأمر لا يتوقف على كبار السن، ولكن الأطفال منذ نعومة أظافرهم يحرصون على حفظ السيرة الهلالية، من بينهم الطفلة "رؤى ناجح عمارة" ذات الخمس أعوام، أصغر شاعرة تسرد السيرة الهلالية في الصعيد، نقلاً عن والدها وقبله جدها.
هؤلاء الأطفال الصغار الذين يحفظون عشرات المئات من الأبيات الشعرية، ويطربون الآذان بشعرهم، لا تعرف كثير من وسائل الإعلام شىء عنهم، ولا يسلط أحد الأضواء عليهم، هؤلاء الأطفال صغار السن في حاجة لدعم إعلامي، وإهتمام من قصور الثقافة بالمحافظات بهذا الجيل وثقل خبراته ومهاراته وتنمية اللغة لديهم، هذه الثروات البشرية يجب تعظيمها والإستفادة منها، وتصديرها للمشهد كمناذج ناجحة تنتعش بمحافظات الجنوب في صعيدنا الطيب.