ينادى الكثير من الخبراء، على مدار سنوات طويلة، بتطبيق "اللامركزية" فى إدارة شئون البلاد، معددين فوائد هذا النظام فى الإدارة ونجاحه فى عدد من الدول والمؤسسات الدولية، وهو ما بدأت الحكومة المصرية فى تنفيذه، بإعداد مشروع قانون التخطيط الموحد للدولة والذي مازال ينتظر المناقشة في البرلمان.
ورغم تأكيد المنادين بتطبيق هذا النظام أنه سيكون له مردود قوى فى مكافحة الفساد، وسيسمح للمحافظات البعيدة عن العاصمة، سواء فى الصعيد أو الوجه البحرى، والتى عادة لا تحصل على الخدمات الضرورية، ولا يكون لها نصيب مناسب فى خطط التنمية الحكومية السنوية، بالحصول على ما تريده من تمويلات لإتمام مشروعاتها التنموية، وهذا كله صحيح بالفعل.
إلا أن هناك وجها آخر لـ"اللامركزية" يجب أن يراه الجميع وخصوصا الحكومة، فهذا النظام يتضمن استقلال المحافظات ومراكزها ومدنها فى تحديد خططها والمشروعات التى ترغب في تنفيذها والتى يحتاجها أهلها بشكل عاجل، دون التقيد بخطط الحكومة أو بالمشروعات التى تحددها وزارة التخطيط، وهذا فى ظاهره شىء يبدو جيدا، إلا أنه ليس كذلك، لعدة أسباب أهمها: أن اللامركزية تتطلب أن تكون هذه المحافظات بها إدارات ومؤسسات قوية وذات كفاءة تستطيع أن تحدد وتقيم أوضاعها وأن تختار المشروع الضرورى والمهم لسكانها، وإلا ستقوم هذه الإدارات بإهدار أموال الشعب المخصصة للمحافظة والمشروعات الضرورية بها.
كما أن تطبيق اللامركزية يتطلب إدارات تتمتع بالحوكمة والترابط فيما بينها، وهذا غير موجود بالمرة فى مصر، فكل إدارة محلية في مصر تعمل بمفردها والرقابة عليها ضعيفة جدا، ولا توجد متابعة يومية أو دورية للموظفين ولا لأعمالهم، إلا في حالة وقوع حوادث كبيرة، وهو ما تسبب في حالة عارمة من الفوضى فى المحليات، وخلق أجيالا متتابعة من الفاسدين والمهملين في الإدارات المحلية، حتى أنه انتشرت مقولة "الفساد للركب فى المحليات"، وهذا ليس لأنه يتم تعيين موظفين فاسدين ولكن لأنه يسمح لهم بالفساد نتيجة ضعف الرقابة والمتابعة.
ولمن يقول إن "اللامركزية" تنجح بشكل كبير في بعض الدول، نقول له إن هذه الدول سبقتنا كثيرا في شكل ومضمون الإدارات المحلية بدءا من المجالس المحلية في القرى إلى المحافظة نفسها، ففى هذه الدول يتم اختيار موظفى الجهاز الإدارى للدولة بمسابقات عامة ولا يتم تعيين إلا الكفؤ، أما عندنا فمعظم موظفى الإدارات المحلية هم أقارب، جاءوا إلى وظائفهم بالواسطة، ولم يحصلوا على شهادات علمية أو تخصصات تتناسب مع ما يمارسونه من عمل.
كما أن معظم الدول المتقدمة تعمل بنظام لا مركزى ولكنه يعمل ضمن استراتيجيات مركزية محكمة لا يمكن الخروج عنها فى أى مكان فى البلد حتى لو كان قرية صغيرة، فالدولة تضع استراتيجية عامة للشكل الذى تريده أن يكون فى فترة معينة، لكنها تسمح للوحدات والمدن الصغيرة باختيار أولوياتها، ولكن ضمن الاستراتيجية العامة، أى أنها لا مركزية محلية منضبطة تعمل ضمن مركزية الدولة.
شرح إيجابيات وسلبيات والمركزية واللامركزية يطول، ولكن يجب على الجميع العلم، أن أهدافها وسلبياتها تختلف حسب كل دولة تطبقها وطبيعتها وظروفها، وفى مصر، أعتقد أنه يجب على الحكومة أن تكون شديدة الحذر في تطبيق اللامركزية وأن لا تتسرع في ذلك، فمازالت الدولة بها 5% فقط لديهم حساب بنكى، ومازالت المصالح الحكومية تعمل بالنظام الورقى، ومازالت مشروعات ميكنة الخدمات في بدايتها، ومازال اختيار الموظفين يخضع لشروط وآليات ليس أهما الكفاءة.
كما أن منح المحافظات والمدن والمراكز والقرى حق اختيار المشروعات التى يتم تنفيذها، سيتطلب منح عدد كبير من الموظفين والمسئولين حق اعتماد صرف الأموال وتحديد جهات صرفها، بمعدل أكثر بكثير عنه فى النظام المركزى، فمثلا إذا كان صرف الأموال في النظام المركزى كان يتطلب مثلا موافقة وزارة التخطيط والمحافظ ومدير المشروع الذي يتم تنفيذه، ورغم ذلك كنا نكتشف كل يوم مسئولين استولوا على أموال المشروعات بطريقة أو بأخرى، فإنه في النظام اللامركزي ستتسع قاعدة وعدد المسئولين الذين من حقهم صرف الأموال فى كل مدينة وكل مركز وكل قرية وبالتالى ستتسع قاعدة وعدد المهملين أو من سيمنحهم نظام اللامرزية فرصة للإهمال، ونصبح بعد ما كنا نعاني من عشرات المهملين في المحليات، سيكون لدينا الآلاف منهم في كل قرية وكل مدينة، أي أن اللامركزية التى تطبق بغير إعداد مسبق من إعداد الموظفين وتنقيحهم ستخلق لنا أجيالا جديدة من المهملين.. فهل تنتبه الحكومة؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة