ألح السفير البريطانى فى الأستانة بتركيا على الباب العالى أن يعلن عصيان أحمد عرابى، فاستجاب السلطان وأصدر إعلانا بذلك يوم 6 سبتمبر، مثل هذا اليوم -1882،حسبما يذكر أحمد شفيق باشا فى الجزء الأول من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
كانت مصر وقتئذ تخضع للسلطة العثمانية، وكان «عرابى»، وزيرا للجهادية، ويقود ثورته ضد الخديو توفيق الذى ارتمى فى أحضان الإنجليز لحمايته، وكان احتلال مصر يوم 14 سبتمبر 1882 هو الثمن الذى دفعه.. استطاع الإنجليز إقناع «الأستانة» باستخدام ورقة الدين فى الحكم على شرعية ما يفعله «عرابى»، وذلك ضمن مخطط محكم يؤدى إلى التخلص منه ومن ثورته واحتلال مصر، ووفقا لشفيق باشا، أصدر الباب العالى إعلانا رسميا نصه:
«معلوم عند الجميع أن خديوية مصر بموجب الفرمانات العالية والامتيازات المقررة، مودعة من جانب الخلافة العظمى إلى عهدة حضرة فخامة محمد توفيق باشا، فهو فى إدارة الأمور المصرية، وكيل مطلق من طرف السلطنة السنية، فأوامره مطاعة، ومخالفته توجب على عاملها طائلة المسؤولية، ومع ذلك فعرابى باشا ارتكب ذنبا بتعرضه لوظائف الحكومة، بما هو مخالف صريحا للأحكام القانونية، فسلب الراحة، وأخل بالأمن فى المملكة، وأضاع عددا من الأنفس، وأضر بالأموال، ولم يقف عند هذا الحد، بل سبب تداخلا عسكريا أجنبيا، لأنه أجبر دولة إنجلترا المخلصة الوداد مع السلطنة السنية، على أن تطلق مدافع سفنها على استحكامات ثغر الإسكندرية».
يضيف إعلان الباب العالى: «مع قصر النظر عن البحث فيما يترتب على مرتكب هذه الأمور من العقاب، فالشريعة الغراء لم تصرح بوجوب المدافعة إلا بشرط الاستطاعة، فلو تفكر لهذا الشرط الشرعى لما قام لتنفيذ مآربه بإراقة الدماء وإتلاف النفوس،وإدخال القطر المصرى تحت مخاطرة مداخلات عسكرية أجنبية، والذى زاد فى المشكل ارتباكا، هو أنه بعد انهزامه فى الإسكندرية، حاصر سراى الحضرة الخديوية مرة ثانية، فاضطر الأميرال الإنجليزى إلى إخراج عساكره للبر للمحافظة على الأمنية، فكانت هذه الحالة مبدأ المداخلات العسكرية البرية».
يذكر الإعلان، أن الباب العالى أرسل وفدا من تركيا إلى مصر، ويكشف السبب قائلا: «كان القصد من إرسال وفدنا السلطانى، المؤلف من درويش باشا، وكل من قدرى أفندى ولبيب أفندى، وحضرة الشيخ أحمد سعيد أفندى، إجراء التبليغات والتنبيهات إلى عرابى باشا بأن يحضر إلى دار السعادة، ويرجع عن مسلكه المعوج الذى سلكه على غفلة من الأهلين، وذلك حتى لا تكون الدولة العلية، مضطرة لإجراء الحركات العسكرية العنيفة، فى حق الأفراد من الأهالى الذين يتبعون قوله لجهلهم وعدم معرفتهم الخير من الشر، أما الوفد فقد أبدى ما بوسعه من النصائح الدينية والشرعية والعقلية المناسبة لظروف الحال، ولم يكن جواب عرابى لذلك كله إلا ثباته فى سلوكه المعوج، وتمادى فى تمرده».
اعتبر إعلان الباب العالى أن «ما أجراه عرابى باشا قبل التهديدات التى حصلت له من الإنجليز، كلها أمور تستدعى معاقبته بأشد العقاب..وأنه أصر على أفكاره السقيمة وحركاته المضادة للشرع المنيف ببث وإعلان البغى والعصيان وعليه فهو باغ عاص، وليعلم الجميع أن الجناب الخديوى هو أمين السلطة ومعتمدها، وهو أعظم أركان الدولة العلية، وما أجراه عرابى باشا وتجاسر عليه من إجراء تلك الحركات مغاير للرضى العالى، فبغيه وعصيانه، هما نتيجة أفعاله وأعماله، أما الحضرة الخديوية فنفوذها مؤيد وامتيازها مقرر من الدولة العلية».
يذكر شفيق باشا، أن جريدة «الجوائب»، وكانت تصدر باللغة العربية فى الأستانة نشرت منشور السلطان، واشترت السفارة الإنجليزية منه مليون نسخة لتوزيعه، يؤكد عرابى فى مذكراته: أرسل من جريدة الجوائب مئات الألوف إلى الهند والأفغان والحجاز والعراق والترك ومصر والمغرب الأقصى، وجميع بلاد الإسلام بواسطة الإنجليز، ووزعت نسخ كثيرة على ضباط الجيش المصرى فى جميع المراكز بوساطة سلطان باشا ومن معه من المخدوعين، وتذمر بعض أمراء العسكرية، وقالوا إننا عصاة على السلطان مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله كما فعل محمد على باشا رأس العائلة الخديوية وابنه إبراهيم باشا، ومن مات منا عاصيا لا أجر له مثل الذين ماتوا من المصريين فى قتال الدولة العلية، فنصحناهم بأن هذا المنشور مخالف لأحكام الدين الإسلامى، لأننا إنما نقاتل أعداء المسلمين الذين يريدون أن يستولوا على بلادنا الإسلامية، وأن الجهاد فى سبيل حماية الدين والمال والوطن فرض واجب علينا، وأن سلطان المسلمين لا يسمح بمثل هذا المنشور، وإنما هودسيسة إنجليزية تمكنوا من إنفاذها بواسطة الرشوة، ولو فرض وصدر مثل ذلك من سلطان المسلمين لوجب على المسلمين خلعه لمخالفته لأحكام الدين، إلا أن تلك النصائح لم تؤثر فى الذين يجهلون أحكام الدين مثل أحمد بك عبد الغفار، وعبد الرحمن بك حسن، وعلى بك يوسف، أظهروا قبول ما أوضحناه لهم وأسروا الغدر والخيانة.