«الحق ننشد لا سواه فإن بدا وأزيل ما غشى وكان ملثما نقولها صراحة، يا ذئب يوسف ما سفكت له دما».
إن الحماية القانونية للحريات لا تكون بمجرد إصدار القوانين وإنما بالتعرف على مبادئها وتطبيقها، وهو ما لا يتحقق إلا بسلطة تكون أحكامُها واجبة الاحترام من الجميع حكامًا ومحكومين، ألا وهى السلطة القضائية، فالقضاء هو الحارس للشرعية والضامن للمشروعية، والحامى للحرية، فالقاضى لا يخضع فى استخلاص كلمة القانون وتطبيقها لغير ضميره واقتناعه الحر السليم، والقاضى لا يرتفع قدره برفعة وظيفته ولا تتسم سماة بسناها إلا إذا تمثلت في نفسه فضائلها.
مبادئ يؤمن بها القاضى الجليل المستشار محمد شيرين فهمى وقالها فى إحدى مقدمات القضايا التى نظرها، لكن الذى قاله فى مقدمة قضية اقتحام الحدود الشرقية اختصرت أحداثًا جسيمة مر بها الوطن وتألم منها كثيرًا.
استهل المستشار محمد شيرين فهمى كلمته برؤية كاشفة للأحداث، فيكفى الأجيال القادمة والتى لم تعاصر الأحداث قراءة مقدمة الكلمة التى قالها قبل النطق بالحكم وقال فيها: «إن من أبشع المظاهر، أن تأتى الإساءة للوطن على أيدي من ينتمون إليه اسمًا بل ويتجردون من مسئولية هذا الانتماء سلوكًا وتصرفًا، وممارسة فئة محسوبة على الوطن انشقت واختارت الوقوف مع الأعداء فى خندق التآمر بعض السلوكيات والتصرفات ضده»، و»أن حب الوطن والانتماء إليه فضلٌ والدفاع عنه شرف، وهو ليس مجرد شعار يمكن تبنيه لتحقيق بعض المكاسب الشخصية، ولذا فإنه على استعداد لتحمل ما يترتب عليه، وأقلها التصدى لكل ما ينال من أمنه».
وقال أيضًا «إن جماعة الإخوان مصدر كل بلية في البلاد، روجوا ضلالات ودعايات انخدع بها كثيرون ولم يتبصروا فى مواطن الأمور، أمانيهم كاذبة، ووعودهم غير صادقة يضيّعون المجتمع، لا يبالون ولا يهتمون بمصالح الأمة ولا يقيمون لأمنها أى أمر»، و «إن الإخوان ليسوا أصحاب قضايا فكرية يدافعون عنها أو مبادئ يتمسكون بها بل يسعون من خلال دعواتهم إلى تسييس الدين واتخاذه لتحقيق مكاسب سياسية ومصالح شخصية، تراهم بعبارات خداعة ويرفعون رايات العزة فتحسبهم للوطن حماة وهم له آلد الخصام».
لن اتطرق للحكم مدحًا أو ذمًا فهذا هو العُرف- علي حد تعبير أحد أصدقائى القانونيين- لكنى أولًا ساتحدث عن المستشار محمد شيرين فهمى، فعندما بحثت وسألت علمت أنه حفيد عبد الحميد باشا خيرى مدير سلاح الفرسان الملكى فى عهد الملك فؤاد والملك فاروق، ونجل اللواء فهمي خيرى لواء الجيش السابق، يمتلك شيرين، سجلًا تاريخيًا مليئًا بالمناصب القيادية، يعد أحد أبرز القضاة العاملين بالدوائر الجنائية، الذين اشتهروا بالحزم كما اتسم بسعة صدره فى سماع طلبات الدفاع ومناقشة الشهود.
القاضى والأديب بينهما علاقة أبدية سحرية تتلخص فى فن الإحساس بمشاعر الناس.. فالقاضى بداخله أديب بارع، لو ترك القلم على سجيته لكتب عشرات القصص والروايات المحملة بالمشاعر والأحاسيس، فهو المتأمل الأكبر فى حياة الناس، والمستمع دومًا إلى شكواهم ظالمين ومظلومين.. يتساوى فى تأمله وغوره إلى المشاعر مع الأديب الذى يحترف الأدب والكتابة.
- ومعروف أن الأدب هو أحد أشكال التعبير الإنسانى عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية التى تتنوع من النثر إلى النثر المنظوم إلى الشعر الموزون، لتفتح للإنسان أبواب القدرة للتعبير عما لا يمكن أن يعبر عنه بأسلوب آخر. يرتبط الأدب ارتباطًا وثيقًا باللغة، فالنتاج الحقيقى للغة المدونة والثقافة المدونة بهذه اللغة يكون محفوظًا ضمن أشكال الأدب وتجلياته والتى تتنوع باختلاف المناطق والعصور، وتشهد دومًا تنوعات وتطورات مع مر العصور والأزمنة، وثمة العديد من الأقوال التي تناولت الأدب ومنها ما قاله وليم هازلت «إن أدب أى أمة هو الصورة الصادقة التى تنعكس عليها أفكارها»، وهناك من جمع بالفعل بين المهنتين فصار القاضى الأديب، وتاريخ الأدب يعرف كثيرًا من الأعمال الخالدة أنتجها قضاة كبار، كما أن أدباء مرموقين عملوا لفترة فى السلك القضائى، كتوفيق الحكيم ويحيى حقى، وحسب رواية القاضى أياد محسن ضمد -على موقع المسلة- غالبا ما تكون اللغة القانونية لغة جامدة محافظة، غير أن ذلك يجب ألا يمنع الإفادة من الوقائع المنظورة وما يرافقها من أحداث ومعانٍ لصياغة لغة قانونية تكون مؤثرة وجذابة للمتلقى حتى تكون مقنعة، لأن هدف القاضى من كتابة قراراته إضافة إلى تحقيق العدالة هو إقناع المتلقى بصحة ومنطقية ما انتهت إليه المحكمة من حكم.
وتستخدم البلاغة والجمل الرشيقة فى مثل هذا الخطاب القانونى بشكل عام يستهدف العاطفة والوجدان فى ذات المتلقى وإحداث تأثير حسى لدى القارئ بصحة الحكم الذى أصدرته المحكمة أو صحة ومنطقية الدفع الذى قدمه المحامى، حتى إننا نجد أن الكثير من القرارات القضائية ولوائح المحامين تكتب بطريقة بلاغية أدبية جميلة من أجل أن تزيد قدرتها الإقناعية، لاسيما وأنها لا تكتب فقط لأطراف الدعوى وذوى الاختصاص وإنما تكتب كذلك لعامة الناس ممن يهمهم تحقيق العدالة والوصول إلى الحقيقة في الأحكام القضائية.
إن لغة الإقناع تتجسد فى تسبيب الحكم، فإذا كان تسبيب الحكم يعنى بيان الواقعة وظروفها والأدلة المتحصلة فيها وما تستند إليه المحكمة فى إصدار قرارها، فإن إيراد هذه الأسباب هو وسيلة من وسائل الإقناع التى تتوجه بها المحكمة إلى محكمة النقض وأطراف الدعوى لإقناعهم بأن الحكم يستند إلى أسباب منطقية وقانونية.