تشكّل فى الوعى الجمعى عند الأمم والشعوب أنّ لمصر خصائص تنفرد بها عن غيرها من الأمم والشعوب، من هذه الخصائص أنّ لجُندها وجيشها القدح المُعلّى من الأخبار الشاهدة على فضله، والمشاهدات الجازمة لرفعته وعلوّ شأنه؛ وإنّما اكتسب جيش مصر هذه الخصيصة من التركيبة الذاتيّة لأهله الذين برعوا فى إبراز قيمهم ونشرها فى العالمين ممتدّة عبر التاريخ مكوّنة لعبق الحضارة التى يتحدّث عنها الناس إلى اليوم.
تذكر الروايات التاريخيّة وصف أهل مصر وجُندها على لسان الحجاج بن يوسف لأحد الولاة، قال له: «لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل، فهم قتلهم الظلمة وهادمو الأمم، وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموهُ كما تلتقم الأم رضيعها، وما أتى عليهم قادم بشرٍّ إلا أكلوه كما تأكل النار أجفّ الحطب، وهم أهل قوة وصبر وجلدة وحمل، ولا يغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه، فاتقى غضبهم ولا تشعل نارًا لا يطفؤها إلا خالقهم، فانتصر بهم فهم خير أجناد الأرض واتقى فيهم ثلاثا: نساءهم فلا تقربهم بسوء وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها، وأرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم، ودينهم وإلا أحرقوا عليك دنياك«.
فحين نتأمّل هذه النصيحة من الحجاج نجدها تلخّص حال مصر فى عيون غير أهلها ممن يعرفون لها قدرها وقيمتها التى لا تتبدّل على مرّ التاريخ؛ لأنّ القيم التى تقوم عليها التجمعات البشرية الإنسانية تتشكّل فى وجدان الناس ولا يمكن نزعها.
فالنصيحة جاءت بوصف أهل مصر أنهم لا يحبون الظلم ولا يرتضونه وأنهم محبون للخير كارهون للشر، يتحلون فى ذلك كلّه بالقوّة والصبر والجلد، وأهل نُصرة؛ لأنهم خير أجناد الأرض، ولأهل مصر أشياء لا يقبلون أبدا أن يمسها أحد بسوء «النساء، والأرض، والدين»، فكلّ ذلك عند أهل مصر من المقدسات التى لا يمكنهم الاستهانة والهوان فيها.
ولأجل أن يتمّ حماية هذه المقدسات ورعاية قيم المجتمع السابق ذكرها، استوجب أن يكون جيش أهل مصر له عقيدة ثابتة فى الدفاع عن ذلك، وهو ما نجده مطردًا على مرّ التاريخ، وحتى على لسان الشرع الشريف، فقد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنهم وأهليهم فى رباط إلى يوم القيامة»، ومعنى ذلك: أنّ سائر أهل مصر باختلاف أنماط حياتهم على ثغر يحمونه أن تمسّه يد الأعداء، ثغر فكرى، وثغر ثقافى، وثغر دينى، وثغر اقتصادى، وثغر قِيَمِى.. إلخ.
فمبعث وصف الجندى المصرى بالخيرية؛ كونه دائما فى رباط لا ينفكّ عنه، فلا هو تُحركه العواطف الفضفاضة ولا المصالح المتغيّرة، بل رباطه قائم على أمرين: الموثوقيّة الخبريّة فى النصّ النبوى الذى فضّله عن سائر الجُند فى الدنيا، والتجارب التاريخيّة التى تُثبت فضل الجيش المصرى فيما خاض من حروب ومواجهات.
ولاشكّ أنّ الحروب والفتن تعتصر الأمم اعتصارًا، فلا ينجوا منها أحد إلا القليل بل النادر، لكن وقائع الزمان أثبتت أن الفتن والحروب التى تمرّ على مصر وأهلها تكون غالبا الغلبة فيها لهم لا لعدوهم، وقد ورد عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا المعنى، حيث قال: «ستكون فتنة أسلم الناس فيها الجند الغربى» أى حين تكون فتنة ما، يكون الحق والسّلم فيها مع الجند الغربى من المدينة، ويقول شُرّاح الحديث أنّ غرب المدينة النبوية هى جهة اهل مصر، فإذا ما وقعت فتنة ما، كان السلام والنجاة فيها لأهل مصر وجندها.