"النوستالجيا" تعني لكل منا إحساسا جميلا ومؤلما في الوقت ذاته، الحنين إلى طفولتك أنت أو طفولة وشباب من سبقوك هى شيء له مذاق مختلف، خاصة إذا كان هذا الشيء قد فقدته منذ سنين وتدرك يقينا أنه لن يعود مرة أخرى، هذا الإحساس الخاص هو الذي يجعلك في الواقع تشعر أن كل ما كان في الماضي أجمل مما تعايشه الآن، ولأن "النوستالجيا" أصبحت جزء لا يتجزأ من حياتنا، والحنين إلى الماضي والعودة إلى الزمن الجميل أصبح يداعب شريحة كبيرة من المجتمع، حيث العودة إلى الرقي والجمال، والشياكة والهدوء والبعد عن الضوضاء والصخب ومواقع التواصل الاجتماعي فإن الدراما المصرية تلجأ بين الحين والآخر إلى الهروب إلى ذلك الماضي، كاشفة بذكاء السيناريو وبراعة التصوير والتجسيد عن صفاء تلك الحياة الراقية التي عاشها المصريون قديما على هذه الأرض الطيبة.
ومن هنا فإن مسلسل "حواديت الشانزليزيه" جاءنا في موسم الشتاء الحالي كي ينهل من "النوستالجيا" لإعادة إنتاج الحاضر على جناح سحر الماضي ودفئ المشاعر ونبل المقاصد في شكل حلقات تنغمس في الماضي ليس هربا من حاضر عنوانه البرود والغرق في العنف والبلطجة فحسب، بل يأتي كوسيلة للاستثمار في موجة الحنين إلى "النوستالجيا" السائدة شعبيا، وربما جاء أيضا على سبيل الهروب من مناقشة الواقع بمشكلاته المعقدة ومخاطر الخوض فيها، وما أحوجنا إلى تلك الأجواء برقيها وبهاء أيامها في زمننا الحالي الذي يشهد تجريفا متعمدا للمشاعر والأحاسيس التي عاشها أباؤنا وأجدادنا في الأيام الخوالي.
ومن أجل هذا الغرض النبيل أولى كل من المؤلف "أيمن سليم"، وكاتبة السيناريو "نهى سعيد" اهتماما خاصا بحقبة "الخمسينات"، ووضعوا لها شعارا عريضا لا يخرج كثيرا عن صراع الجمال والقبح لينغمسوا سويا في عمل درامي تنازع فيه الصورة الأحداث على خطف أنظار الجمهور المتعطش لصفاء تلك الأيام، وساعدهم على ذلك ديكور يتسم بالفخامة والألوان الزاهية، وبأزياء نسائية ورجالية مزركشة وبيوت واسعة مليئة بالتحف واللوحات التشكيلية فائقة الجودة، فضلا عن شخصيات تتسم بالهدوء ولاتتكلم إلا بالقطارة فيما بفيد فقط، وتلك كانت سمات ذلك الزمن الجميل.
تنطلق المشاهد في خفة ونعومة لتنعش الذاكرة حيث تغوص الكاميرا في استعراض لشارع "عماد الدين" بوسط القاهرة الغني بالمسارح والمقاهي والفنادق الصغيرة التي ضمت وجود جنسيات وديانات مختلفة به للدلالة على التنوع القديم، بعيدا عن العصبية الدينية أو العرقية، ومن بهو فندق "الشانزليزيه" تبدأ العقدة والصراع بمقتل البطل الأساسي "رياض - إياد نصار" بعدة طعنات، ليتبارى وكيل النيابة "محمود سليم - إدوارد" في كشف ملابسات الجريمة التي تتسم بغموض كما يردد دائما أنها صعبة.
باستثناء بعض السقطات الخاصة باختيار أغان لا تتناسب تماما مع تلك الحقبة الزمنية، وتعمد إظهار استسلام شبكة المحيطين بـ بشخصية "رياض" - محور الأحداث - ووقوعهم بسهولة في براثن الأفخاخ المتتالية التي ينصبها بمهارة ودهاء يحسد عليه، ولعل الصورة التي رسمت لـ "رياض" كشيطان، ومحمود سليم كملاك، كان هدفها - بحسب كاتبة السيناريو "نهى سعيد" - إثارة الصراع الأزلي بين الخير والشر، فالأول يتلذذ بإيذاء الآخرين وتدميرهم، والثاني مهموم دائما بإظهار الحق حتى لو كان على حساب صحته وعائلته، للتأكيد على أن الخير يوازن الشر، وحينما يقل أحدهما يحل الآخر مكانه، ومع ذلك فقد راعى المسلسل توثيق الماضي بشكل متطابق إلى حد قريب مع الواقع الذى كان يميز تلك الفترة الزمنية.
لقد بدا واضحا منذ الحلقة الأولى وحتى النهاية أن الهدف من المسلسل اجتماعي بالمقام الأول، وليس سياسيا أو تاريخيا، لذا فلم يتطرق كثيرا لنفس الفكرة التي تناولتها أعمال سابقة عن الأوضاع التي شهدتها حقبة "الخمسينات" من المناداة بجلاء الاحتلال والصراعات الحزبية وطبيعة الحياة في القصور الملكية، ولكنه عمد إلى التركيز على دفئ المشاعر المبطنة بالحنين، ومن هنا فقد شهدت الحلقات مباراة جادة في الأداء، بحيث قدم لنا صورة لمجتمع مصر القديمة الفاضل بشوارعها الجميلة وبشرها الراقين في الكلام والسلوك، ومن فوق كل ذلك فكرة تعايش الجميع بصرف النظر عن الأديان والأعراق والأصول في مكان واحد بتناغم وانسجام يندرأن يتكرر حاليا.
على مستوى الأداء: برع "إياد نصار" في أن يظل ماضيا على ابتسامة صفراء في غالبية المواقف التي يواجهها، ومثل الضبع يلتهم بالحيلة فريسته بخسة ووضاعة دون وازع من ضمير أو مراعاة للمشاعر الإنسانية، ويبدو لى "إياد" في هذا المسلسل ممثلا واعيا ومثقفا ويعتمد آلية تمثيل متطورة بحيث لم يظهر في مشهد واحد متخشبا لاحياة في أداء دوره، بل كان دوما يقظا حساسا وغير اندماجي، ما يؤكد أنه كان يراقب نفسه من مشهد لآخر لكي لايسبق الشخصية ولا يتخلف عنها ويحدث إرباك في عملية التجسيد، ما يشير إلى تمتعه بخيال يتستوعب كافة المواقف الدرامية، فضلا عن تمتعه بوافر من الصفات التي ظهرت في سرعة البديهية، مامكنه بالضرورة في أن يسبر غور الشخصية التي قدمها، من خلال التعرف الجيد على كل الابعاد التي تتمتع بها تلك الشخصية، على مستوى "البعد الطبيعي البعد الاجتماعي البعد النفسي".
باختصار وعى "إياد نصار" إلى أن الشخصية هى الأساس الجوهري للنص، وهي القلب النابض للحكاية، لذلك قبل البدء بأي شيء لابد من التعرف بشكل جيد على أسلوب أو جوانيات الشخصية وعلى صفاتها وأوضاعها، وهو برع فيه وترجمه في سلوكيات محددة أكدت على انتمائه لـ "مدرسة الفعل الجثماني" - بحسب ستانسلافسكي - إنطلاقا من أن السلوك هو الحدث الدرامي، لأن جوهر الشخصية يعني لنا الحدث الدرامي، وتلك الصفات والعلاقات ترتبط ببعضها البعض وتتداخل الواحدة بالأخرى أثناء عملية بناء الشخصية وتحديد شكلها، وبعد ذلك يتضح لنا مايلائم فعلا بناء هذه الشخصية كما بدا واضحا من أداء "إياد" الذي أتقن ببراعة شخصية "رياض" المركبة إلى حد التعقيد الذي يناسب تعقيدات قضية مقتله.
لعبت "فريدة سيف النصر" شخصية "طاطا" بعذوبة منقطعة النظير، وقد بدت منذ إطلالتها الأولى كبرتقالة طازجة تشتم فيها أريج عطرها الفواح برونق وبريق آخاذ في كل مرة تطل علينا فيها، وعلى قلة مساحة الدور فإنها برزت بأدائها لدور الكفيفة ممثلة من وزن ثقيل، تترك أثرا يدوم طويلا مع كل شخصية تؤديها، وهو ما ينم عن حب الشخصية في العمل من جانبها، وهو الأمر الذي يحقق - التقمص أو الاندماج - بين نفس الممثل والشخصية التي يمثلها، وهو ما يقودها في نفس الوقت إلى التمييز بين كل ماهو عرضي غير هام وبين ما هو يشكل جوهر الانسان ذاته، وهذا الجوهر الذي يبنى عليه الفعل المتداخل في الدور، ويبدو أن التمثيل لدى "فريدة" يأخذ بحرفية عالية طريقة التقمص والتخيل في حبل القيادة في الوعي وفي الإيهام.
مشاهد شخصية "طاطا" كانت بمثابة واحة أمان حقيقية تبعث الدفء والحنو على كل من حولها من الشخصيات النسائية الأخرى"ريتا - روز- فتنة - فردوس - سعاد" وغيرهن من الرواد والعاملين بفندق "الشانزليه"، لقد ظلت طوال الوقت بمثابة "عمود الخيمة" الذي يظلل بمشاعره الفياضة على الجميع، وحائط الصد الذي يقى بعضهن من الشطط وإلحاق الأذى، ربما قتلت في الحلقة 27 وحزن الجمهور على فراقها كثيرا كما ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن عبق أداءها وعذوبة حديثها لم يغادر ذاكرة المشاهد لحظة واحدة حتى الوصول لخط النهاية طوال الـ 18 حلقة المتبقية، وهذا الأمر يجعلني أقف حائرا أمام عمى بصيرة بعض المخرجين والمنتجين عن هذه الممثلة القديرة عن جدارة واستحقاق.
ثالث العلامات البارزة في الأداء "إدوارد" الذي جسد شخصية "محمود سليم" رئيس النيابة، بحرفية عالية جدا حتى أنه كان يستخدم جسده بشكل مقنع ورائع، ومتى ما يصبح جسم الممثل عبارة عن تيار من الاندفاعات التي تتدفق بشكل ساحر نراه متالقا بوصوله إلى حالات الصدق والإحساس المشحون بإنسانية تشعر بكل ماهو محسوس، ويتم ذلك عبر الدخول في الأعماق الداخلية للشخصية وسبر أغوارها، تماما كما فعل "إدوارد"، خاصة مشهد "الماستر سين" له على مدار الـ 45 حلقة، ذلك المشهد الذي يؤدي فيه الصلاة خاشعا متضرعا لوجه الله الكريم بأن ينقذ ابنته من "داء السل" الذي ألم بها، فضلا عن إحكامه الكامل في السيطرة على الشخصية بصرامة في أثناء التحقيقات، بينما كان هناك نوع من التباين في بيته الذي شابه دفئ المشاعر وحنان الأبوة في أروع صورها.
فاجأتني "إنجى المقدم" بدور أبعد ما يكون عن شخصيتها، كما يبعد في ذات الوقت عن الأدوار التى قدمتها من قبل، فقد نسيت نفسها مع شخصية "عايدة" ولكنه ليس نسيانا كليا إذ احتفظت دوما بوعى الممثلة بداخلها، رغم دخولها الدخول فى إهاب شخصية أخرى، أى محاولة الاتساق بالشخصية الدرامية والتظاهر بها، وذلك بمحاكاة طريقة كلامها وطريقة حركاتها وسكتاتها، وببراعة دخلت تحت جلد الشخصية لتبدو متعددة الأبعاد وبثت فيها الروح الشعبية كما ينبغي أن تكون، خاصة في ردود أفعالها فى لحظات الصمت أمام "رياض" الذي برع في استلابها في كل مرة تحاول التمرد عليه وكأنه يسكرها بمخدر يفقدها إرادتها.
ولأن المسلسل يعتمد على البطولات الجماعية فالعمل يضم نخبة كبيرة من النجوم ومنهم "أماني كمال" وهاجر الشرنبوي في دوريهما، حيث "اتقنت كل منهما اللكنة التي تتحدث بها، فضلا عن أداء هادىء يتسم بالرقي وحساسية المشاعر، وأيضا "مى سليم" التى أدت دور "فتنة" على طريقة الراحلة "وداد حمدي" بخفة ورشاقة لاقت استحسانا كبيرا، وأيضا أتوقف طويلا أمام "يوسف حافظ" فقد أدى دور"فرغلي" على نحو كوميدي رائع يؤكد موهبته الحقيقية التي اختلفت هذه المرأة لتضعه في خانة الأداء الاحترافي.
أما التجربة الإخراجية الأولي لـ "مرقس عادل" فقد حققت للمسلسل المعادلة الصعبة في صناعة صورة مبهرة، ورغم أن المنتج "تامر مرسي" جازف بالتعامل مع كاتبين ومخرج جدد، لكنه نجح من خلال إنتاج هو الأكبر في تاريخ شركته "سينرجي" التي أصبحت المعادل الموضوعي للمتعة الدرامية.
ورغم بعض العيوب الطفيفة فإن المسلسل حقق مشاهدات جيدة، وأصبح اسمه طوال 45 حلقة ترينداً على "تويتر"، ذلك لأنه في الأصل يحمل رسالة مهمة في صورة حالة من "النوستالجيا" عبر قصة جذابة وحبكة غامضة، واستطاع أن يقتطع جزء من وقتنا يوميا لنلامس الماضي الجميل على جناح مشاهد تغسل الروح، ونستبدل اللحظات القاسية في حياتنا بمشاهد رومانسية عذبة في قالب يحمل قضية غامضة، ويظل الصراع دائرا بتشويق غير مخل بالحكاية مع أحداث تحمل الخير والشر معا.. تحية لصناع هذا العمل الراقي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة