لا يمكن لبلد بكل هذه الحضارة والتاريخ، والتنوع البشرى والثقافى، الذى شهدته على مدار قرون طويلة، أن تكون مشكلتها فى ذهاب طلاب الجامعات للامتحان ببنطلون مقطع أو شعر طويل أو بنت ترتدى فستانا قصيرا أو ملفتا للنظر، أو طالب يضع سلسلة فى رقبته أو "حظاظة" فى يده، فهذه الأمور لا يمكن أن تكون مثار جدل وخلاف، احتراما للتنوع والاختلاف فى هذا المجتمع الكبير، الذى تتعدد فيه الثقافات وتختلف فيه ظروف النشأة والتكوين، وتتباين العادات من الصعيد إلى بحرى، ومن مدن القناة إلى سيناء، ومن الإسكندرية إلى مطروح، فيجب أن تكون صدورنا أرحب وعقولنا أنضج، وننظر للموضوع بصورة تحترم خصوصية طالب الجامعة وحريته فى الملبس والحركة كجزء من شخصيته.
لم نكن نسمع أبدا خلال فترة الستينيات أو السبعينات أن الجامعة تمنع المينى جيب أو الميكرو جيب أو البنطلونات الشارلستون، أو تأمر الطلبة بحلق شعرهم الطويل أو تمنعهم من دخول الامتحانات أو المحاضرات لتلك الأسباب، وأفلام ودراما تلك الفترة خير دليل على ما أقول، بل قد كانت تلك الفترة مليئة بالأنشطة والحراك على كل المستويات.
المادة 54 من الدستور المصرى كفلت الحرية الشخصية لجميع المواطنين ووضعت قيودًا صارمة للمساس بها، والتى تنص على أن "الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق، ويجب أن يُبلغ فوراً كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويُمكٌن من الاتصال بذويه و بمحاميه فورا.. إلى آخر هذه المادة، بل ونصت المادة 99 أيضا أن "كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور جريمة لا تسقُط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم وللمضرور إقامة الدعوى الجنائية بالطريق المباشر وتكفل الدولة تعويضًا عادلًا لمن وقع عليه الاعتداء.. إلى آخر هذه المادة"، وبما أن الملبس حق طبيعى لكل إنسان فإن تقييده بشروط، ومنع الطالب من حق طبيعى وهو "الامتحان" بسبب بنطلون ضيق أو مقطوع أو شعر طويل جريمة تحتاج إلى عقوبة قانونية صارمة، وعلى المشرع ألا يقف صامتا من هذا الأمر ويترك الجامعات فريسة لمجموعة من الأفكار الرجعية المتطرفة، التى يتوهم أصحابها أن الأخلاق والفضيلة مرتبطة بنوعية وشكل الملبس.
لا يمكن أن نصنف هذه الطالبة بأنها محترمة ومهذبة لأنها ترتدى حجابا وملابس واسعة، ونصنف أخرى عكس ذلك لمجرد أنها تترك شعرها وترتدى البنطلون أو الملابس الضيقة، فالأمر ليس مرتبطا بالدين أو العقيدة والأخلاق بقدر ما هو ثقافة مجتمعية تتغير من فترة لأخرى، فقد كانت أمهاتنا فى الريف المصرى البسيط، تلبس "جلاليب" تحت الركبة، ولم يكن الأمر مرتبطا بالعفة أو الفضيلة أو الأدب، حتى جاءت فترة التسعينيات وما أعقبها لنجد كل النساء يلبسن العباية الخليجية والملابس الطويلة التى تعتبر دخيلة على الثقافة المصرية.
أحد رؤساء الجامعات المصرية ادلى بتصريحات لليوم السابع قائلا: "بعض الطلاب يقلدون المطربين ومش هقلب الجامعة مطربين"، فهل هذه عقلية يمكن أن تصنع نشاطا فى الجامعات أو تقدم فكرا مختلفا وتبنى طالبا مختلفا ثقافيا وفكريا، بعدما حصر كل مشكلات التعليم فى مصر فى البنطلون المقطع والشعر الطويل والحظاظة والبلوزة إلى آخر هذه التفاهات؟!
رئيس جامعة آخر قال: "الحرية لها أنياب ويجب أن تمارس فى حدود لأن التجاوز فى أى شىء مرفوض" ، حقيقة لا أعرف من أين جاء بهذه العبارات، وأين نجد أنياب الحرية التى يتحدث عنها، إلا أن رئيس الجامعة مادام يتحدث بهذه الطريقة ويستخدم هذه العبارات، فلا أتعجب أن تصدر منه قرارات البنطلون والشبشب والحظاظة.
وزارة التعليم العالى لم تلتفت للقضية على الإطلاق ولم تعلق عليها ببيان واحد، رغم كثرة بياناتها ونشاطها الإعلامى المعهود، بل عندما تهاتف أحد مسئوليها للتعليق على قضية البنطلون والشبشب، يرد فورا: " أنا ماليش دعوة بالموضوع ده.. ده شأن الجامعات"، فى حين أنه شأن أكبر للتعليم العالى، وقضية مرتبطة بمستقبل الطلبة الذين يتم حرمانهم من الامتحانات دون ذنب بسبب قرار إدارى غير صائب.
من هذا المقال، أدعو كل طالب تم حرمانه من الامتحانات أن يتوجه إلى مجلس الدولة لرفع دعوى قضائية تطالب ببطلان القرار الإدارى الصادر من بعض الجامعات بشأن نوعيات الملابس التى تم منعها، مع رفع دعاوى تعويض لما لحق بهم من ضرر مادى ومعنوى نظير هذه القرارات، كما أدعو مجلس النواب إلى التدخل لصيانة الحرية الشخصية واحترام الدستور والقانون، فالموضوع ليس على قدر قرار إدارى يتحكم فى ملبس الطالب، بل اعتداء على حرية المجتمع وتعارض مع تاريخه وثقافته.