استدعى الفرنسى فرديناند ديلسيبس ، رئيس شركة قناة السويس، الأمير عبد القادر الجزائرى للحضور إلى مصر، فوصلها إلى القاهرة فى السادس من يونيو 1864، حسبما يذكر المؤرخ الدكتور محمد صبرى السوربونى، فى كتابه «الإمبراطورية المصرية فى عهد إسماعيل والتدخل الأنجلو فرنسى»، مضيفًا: «فى يوم 16 يونيو 1864 وافق مجلس إدارة شركة القناة على قرار ديلسيبس بوضع الأراضى الواقعة فى برزخ السويس تحت تصرف الأمير بشرط تصديق إمبراطور فرنسا».
يكشف «السوربونى»، أن ديلسيبس كان لديه مخطط بتوطين جزائريين فى الأراضى المصرية تحت رئاسة الأمير عبدالقادر، وكانت الجزائر وقتئذ تحت الاستعمار الفرنسى.. يذكر السربونى: «أن الأمير عبدالقادر ولد فى مسكرة بالجزائر سنة 1807، وتوفى فى دمشق سنة 1883 بدمشق، وهو أمير من الأشراف المنتمين للطريقة القادرية، وقاد الجهاد ضد الغزو الفرنسى للجزائر سنة 1832 لمدة خمسة عشر عاما، ثم استسلم للفرنسيين عام 1947، وقضى فى الأسر خمس سنوات ثم أطلق سراحه، وعاش فى دمشق منذ سنة 1855 وأسس بها محفلًا ماسونيًا».
يؤكد «السربونى» أن إسماعيل باشا شعر بخطورة عبدالقادر فى مصر، وتخوف من المؤامرات التى ستحيط به، فأمره رسميًا بمغادرة البلاد، غير أن ديلسيبس أرسل إلى عبدالقادر يستدعيه مرة ثانية، وكان الاستدعاء برسالة منه مكتوبة باللغة العربية.. يذكر «السربونى» أن هذه الرسالة كانت تحمل خاتم ديلسيبس ، وذكر فيها ما معناه: «تلقيت رسالتك التى تسألنى فيها عما تم بخصوص موضوع أملاكك الواقعة فى منطقة «بير أبوبلاح»، ولكننى تأخرت فى الرد عليك لانشغالى بمحاربة أعداء مشروع البرزخ.. أما الآن، فإن الأوضاع على مايرام بفضل من الله وسأنفذ هذا الموضوع، فبعد صدور قرار التحكيم الإمبراطورى الذى نص على أن منطقة «بير أبو بلاح» ستظل فى حيازة الشركة، قمت بإبلاغ صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحبة الجلالة الإمبراطورة بنيتى بتنفيذ الإجراءات التى ستجعل منك سيدًا على هذه المنطقة، وأبدى صاحبا الجلالة رضاءهما التام عن هذه الهدية المقدمة إلى شخصكم الكريم، ومن جهة ثانية، فقد تصالحت مع الوالى «إسماعيل» ولم يبق بيننا إلا خلافات صغيرة غير ذات أهمية، وأعتقد بأننى سأنجح فى جعله يدرك أهمية المزايا التى ستعود على بلاده وعلى الدين الإسلامى نظرًا لوجود شخصية مثلكم فى تلك المنطقة، وأما فيما يتعلق بى، فإننى أقول لكم جملة واحدة: تعال بأسرع ما يمكن».
يقدم ديلسيبس إغراءات أكثر لعبدالقادر، ويتحدث فى رسالته بلغة أنه مالك الأرض باعتبارها تابعة لشركة قناة السويس التى تسيطر عليها فرنسا، وبالتالى فإنها مملوكة لإمبراطور فرنسا.. يضيف موجهًا كلامه لعبد القادر: «إذا رأيت أن منطقة النفوذ هذه ستكون صغيرة للغاية، فإننى سأضيف إليها مساحات أخرى ستناسبك من الأراضى التى بقيت فى حيازة الشركة، أما إذا بدا لك أن ذلك كله غير كاف، فإننى آمل مع مرور الوقت فى إقناع الوالى بزيادة مساحة منطقة نفوذك وذلك بمنحك أراض من أملاك سموه».
بناءً على رسالة ديلسيبس ، وصل الأمير عبدالقادر يوم 26 يناير سنة 1865 إلى الإسكندرية، حسبما يذكر «السوربونى»، وكانت هى الزيارة الثانية لمصر فى إطار المشروع الذى يخطط له ديلسيبس .. يضيف السوربونى: «كان عبد القادر فور وصوله قد سأل قنصل فرنسا عما يجب عليه أن يفعله، واستند القنصل على ما حدث من قبل، فأبلغه معارضة الوالى «إسماعيل باشا «فى إقامته فى مصر.. وفى الواقع فإن شريف باشا وزير الخارجية المصرية، كان قد سارع ووجه رسالة إلى وكيل شركة قناة السويس، ذكر له فيها: «هل تجهل الشركة أنها لا تستطيع التنازل عن أية أراض طبقًا لبنود قرار التحكيم الإمبراطورى؟ وكيف استطاعت الشركة توجيه مثل هذه الدعوة للأمير، خصوصًا وهى تعلم أن إقامته فى مصر تلقى معارضة شديدة من قبل صاحب السمو الوالى، وأن حكومة صاحب الجلالة الإمبراطور «نابليون الثالث» قد أقرت بصحة الاعتراض ومبرراته».
كانت مساحة الأرض المقرر أن يمنحها ديلسيبس إلى عبد القادر الجزائرى 2300 فدان، حسبما يأتى فى كتاب «قناة السويس–ملحمة شعب تاريخ أمة» للكاتبين محمد الشافعى ومحمد يوسف.. ويكشف السوربونى: «كان مشروع ديلسيبس يهدف إلى توطين الأمير عبدالقادر الذى يتمتع بحماية فرنسا، ومعه خمسين أسرة جزائرية موالية له فى منطقة «بير أبولاح» وتحويلها إلى مركز يلم شعث بدو الشام ومصر، ويدين بالولاء لفرنسا، ولكن والى مصر أفسد هذا المشروع، حيث استدعى الأمير عبدالقادر، وأبلغه بأن شركة قناة السويس لا يمكنها تمليك أى متر فى منطقة البرزخ له أو لغيره، وأنه لا يوافق على إقامته بالبلاد»، وأصدر الخديو أمرًا يوم 28 يناير مثل هذا اليوم 1865 بمغادرته البلاد بعد يومين من حضورها إليها.