كانت ثورة يناير ترفع شعار «عيش حرية عدالة اجتماعية»، هذه الشعارات السهلة شكلا، كانت تعنى لدى كل فصيل معنى مختلفا، الاشتراكيون غير الليبراليين غير الإخوان والسلفيين، بعد انتهاء رومانسية اللحظات المؤثرة، للخمسة عشر يوما 28 يناير- 11 فبراير – كان الطبيعى أن يكون هناك حوارات للاتفاق على الحد الأدنى من الخطوات والمطالب، لكن شيئا من هذا لم يحدث، سادت حالة من الغرور الثورى، وانشغال الزعماء بـ«صورهم فى التليفزيون»، وتحالفاتهم التحتية التى تختلف عما هو معلن.
رأينا كثيرا من الائتلافات والتجمعات كلها تتحدث باسم الثورة، وتصنف غيرها على أنهم ليسوا «ثورة»، وتحول الأدباء والإعلاميون إلى نشطاء، والنشطاء إلى إعلاميين ومحللين، واختلط الحابل بالنابل، ليعين كل منهم نفسه وكيلا وحيدا على مواقع التواصل، بعيدا عن شعب آخر.
اللافت للنظر أن حالة التعالى لم تكن متناسبة مع تيارات وزعامات يفترض أنها تتحدث باسم الشعب، وتسعى لمخاطبته، وتضع الديمقراطية شعارا، لو راجعنا مقولات وتويتات وتصريحات من تولوا مناصب فى فترة ما بعد التنحى، نجدها تمدح الشعب وتتغزل فى الجماهير، لكن بعد أن خرجوا وغادروا مناصبهم انهالوا اتهاما وشبا لنفس الشعب.
والسؤال الذى كان يفترض طرحه مع أسئلة أخرى بعد 25 يناير: هل كل من يتحدث عن الديمقراطية ديمقراطى، وهل يقبل الخلاف مع آرائه وأفكاره، وهل يعترف بأنه ارتكب خطأ عندما تحالف مع طامعين ومتطرفين، كانوا يريدون الديمقراطية ليصادروها.
من المفارقات أن بعض زعماء النشطاء، ومنهم كتاب ومثقفون وقانونيون وأكاديميون، لا يكفون عن الحديث حول الديمقراطية والتعددية والآراء المختلفة، هم أول من يصيبهم الضيق عند أول خلاف معهم من «فريندز» أو متابعين من عابرين أو «شعب».. يظل الواحد منهم يكتب آراءه ويتحدث عن ميزات الخلاف فى الرأى الذى لا يفسد للود قضية، وعند أول خلاف سرعان ما «ينقمص»، أو يبدى غضبًا، وينسحب، أو يواجه مخالفيه بـ«البلوك».. وهو أمر انتشر بين زعماء وحلفاء سابقين تبادلوا «البلوكات واللكمات»، لمجرد اختلاف فى الرأى، وعندما ينتقد هذا الفريق أو ذاك، يكون الرد اتهام المختلفين بأنهم «لجان إلكترونية مدفوعة خصيصًا لمهاجمته»، وقد يتخذ البلوك «الحظر» طريقًا للمواجهة، وهنا يتهمه من «بلكهم» بأنه لا يقبل الديمقراطية التى ينادى بها، لدرجة أن ناشطا شهيرا يضع» الديمقراطية هى الحل» شعارا، وهو واحد من أكثر الناس «حظرا وتبليكا» لمخالفيه على شبكات التواصل، لدرجة تسميته «ملك البلوكات«.
ومثلما كان هناك من يدعى أنه «الوكيل الرسمى للإسلام والدين، كان هناك من أعلنوا نفسه»، الوكيل الرسمى للثورة، سعى هؤلاء من البداية إلى تقسيم الشعب إلى شباب ثورى وشيوخ وكهول انهزاميين ومتكوكبين متقلصين وفى النهاية تحالفوا مع أكثر التيارات تطرفا وانتهازية، هم من احتلوا المنصات والفضائيات وتحدثوا وطرحوا أفكارا متناقضة، لا تبحث عن طريق ولكن تبحث عن تصفيق.
كان هؤلاء هم من صنعوا الحيرة، ونشروا الانقسام، ودعموا الصراع والصدام. ومازال بعضهم يمارس هذه العادة السياسية مدعين أنهم فقط الوكلاء الرسميون، ولا يجرؤ أحدهم على الاعتراف بالخطأ، وبعضهم يفعل هذا طلبا للتمويل السخى أو بحثا عن دور أو انتقاما من أنه تم استبعاده.
فى السياسة، ليس من حق أحد أن يدّعى أنه وحده صاحب الرؤية الصحيحة، وفى العقيدة الناس سواسية، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالعمل والاجتهاد، لكن فيروس احتكار الدين انتقل إلى محتكرى الثورة والوطنية، وكان الخلاف فى الرأى ينتج البلوك ويفسد القضية، وينشر الحيرة والقلق والخوف.