منذ الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، ظلت العراق رهينة لإيران وأمريكا، وتم هذا بمعرفة كاملة وشبه اتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية. سلمت إدارة جورج دبليو بوش مقدرات العراق لطهران، وجرى تفكيك الدولة والمؤسسات الأمنية والسياسية باتفاق بين الطرفين، واستبداله ببناء سياسى طائفى هش لصالح إيران، وأقر بول بريمر أول حاكم للعراق، وقال فى مذكراته، إنه تلقى أمرا من بوش بتفكيك المؤسسات العسكرية والسياسية، وأنه لم يجد بديلا يمك الاعتماد عليه، واعترف أنه فوجئ بأن المعارضين للبعث لم يكونوا لديهم شعبية أو اتصالات تساعد فى بناء سياسى، بل إن أحمد الجلبى وزعماء المعارضة فى الخارج بعد إسقاط النظام طلبوا العودة فى حماية دبابات أمريكية، وعندما سألهم عن الجماهير التى قالوا إنها تنتظرهم لم يقدموا جوابا، بريمر اعترف بأنه تقريبا سلم العراق لإيران والزعماء الطائفيين.
إيران إذن وبمعرفة كاملة ورضا من الولايات المتحدة، كانت شريكا فى صناعة الوضع الاقتصادى والسياسى الذى انتهى بالفشل، وأدى لظهور داعش وتوطين القاعدة والحشد الشعبى، والتنظيمات الإرهابية، وصولا إلى المظاهرات العراقية التى تتوجه ضد إيران فى المقام الأول، بل إن الإيرانيين كانوا أكثر دراية بالعراق من الأمريكان، واتفقوا معهم على محو أى قوة للعراق انتقاما من العراق وليس فقط من نظام صدام، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأمريكان انسحبوا لكن إيران تسيطر وبقوة، على القرار السياسى والاقتصادى فى العراق، وبالتالى فهى شريك فى الأزمة الاقتصادية التى يعيشها العراقيون، بجانب الفساد الضخم ونهب الثروات من قبل الطبقة السياسية التى تم بناؤها ما بعد سقوط بغداد.
إيران لم تسع لتحويل العراق إلى نظام على الطريقة الإيرانية، ولم تصدر له الثورة التى طالما بشرت بنشرها فى العالم، بل إن طهران مع تركيا لعبتا دورا فى نهب ثروات العراق الضخمة من النفط، وأقامتا مشروعات مائية خفضت نصيب العراق من دجلة والفرات، وهو أمر لم يجرؤا عليه قبل ذلك.
كان وجود إيران بمعرفة واتفاق مع الإدارة الأمريكية، بالرغم من أن الإيرانيين ظلوا يطلقون شعارات الموت لأمريكا، ثم إن قاسم سليمانى لم يكن فى العراق لتنظيم حماية الشعب، ولكن لوأد الاحتجاجات العراقية التى تتوجه إلى إيران وبدرجة أقل إلى الولايات المتحدة.
لقد بلغت العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران قمة التنسيق حتى توقيع الاتفاق النووى، والذى كان سببا فى تعقد العلاقات بعد تولى ترامب، لكن المناوشات بين الطرفين لم تتوقف، وفى المقابل يمكن اعتبار الصدام الأخير بين إيران والولايات المتحدة هو صدام بين حليفين سابقين تشاركا فى تدمير العراق وتمزيقه سياسيا واقتصاديا، حتى ولو كان الخطاب الدعائى المعلن عكس ذلك، ولا يمكن اعتبار قاسم سليمانى زعيما ثوريا ذهب لإنقاذ الشعب العراقى، لكنه كان يدير عملية لوأد مطالبات العراقيين باستعادة الدولة وبناء نظام يناسب قدرات العراق وشعبها، وتم تنفيذ عملية اغتياله فى العراق، وكان قادما من لبنان وسوريا، وهناك تصريحات له يفتخر بها بسيطرة إيران على أربع دول عربية.
لقد روجت إيران منذ ثورة الخومينى نهاية السبعينيات أنها دولة ثورية تسعى لنقل تجربتها إلى العالم العربى والإسلامى، بينما كانت تسعى لبناء نفوذ إقليمى والمنافسة فى السيطرة على أنظمة ودول، وهو سلوك طبيعى ومشروع حال تم بالسعى السياسى، لكنه استند إلى إقامة ميليشيات وتنظيمات تابعة لإيران لم تكن تسعى لتحرير الشعوب، وإنما تساهم فى صراعات المنطقة ورفع درجات استهلاك السلاح.
ولا يمكن تجاهل أن إيران حصلت على بعض التأييد عندما ساندت المقاومة اللبنانية ممثلة فى حزب الله بمواجهة إسرائيل، لكن الأمر اختلف مع الوقت عندما استقر الصراع مع إسرائيل على تبادل التهديدات والعمليات السرية المحسوبة من دون الوصول لمواجهة علنية، وتوسع نفوذ طهران فى العراق ولبنان بشكل انتهى إلى خروج مظاهرات تطالب بخروج الإيرانيين، خاصة أن تجربة إيران فى العراق لم تكن دعما أو تخطيطا سياسيا، لكنه كان أقرب لاحتلال، وكان دخول وخروج قاسم سليمانى وغيره يتم تحت سمع وبصر الأمريكيين، وربما بتنسيق معهم، وتم إنشاء قوات الحشد الشعبى بعلم الأمريكان لمواجهة داعش، وتغاضت أمريكا عن اتهامات للحشد بالطائفية تجاه السنة.
هنا يمكن اعتبار الصدام الأخير بين الولايات المتحدة وإيران هو صدام بين حليفين سابقين فى العراق، تعارضت تحركاتهما، أمريكا اعتبرت محاولة اقتحام سفارتها فى بغداد وإطلاق صواريخ خروجا على اتفاق غير مكتوب وقصفت حزب الله العراقى والحشد الشعبى، ثم نفذت عملية اغتيال قاسم سليمانى، وهى عملية بدا فيها أن أمريكا تستعرض قدراتها على الاختراق، وترد على تهديدات إيرانية متكررة، اعتبرها كثيرون أقرب للإهانة، فضلا عن رفض وساطات أوروبية وروسية للعودة إلى مائدة التفاوض، إيران هددت بالرد على اغتيال سليمانى، بضرب مصالح أمريكا، وهو أمر وارد لكنه يظل فى سياق محدود لأن إيران المرهقة من أزمات اقتصادية وسياسية لاشك لديها حسابات معقدة تتعلق بمصالحها وحجم المواجهة، ثم إن إيران لها مصالح يمكن إيذاؤها.