هو واحد من الشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا نكبة فلسطين بكل تفاصيلها المرعبة من تشريد وضياع، وبأبشع مشاهدها وآثارها الدامية، ومن ثم عرف في البدايات حياة التشرد والبؤس والضياع، حيث عانى مع شعبه وأهله في "صفد" التي ولد فيها قبل ثمانين عاما تقريبا، ولقد حكى لي تفاصيل كثيرة عن حياة الغربة الموحشة بعد رست به مراسيها معه في هولندا حاليا، وذلك من خلال لقائي به منذ أيام بالقاهرة ونحن نتجول في منطقة الحسين التاريخية، حيث عرج على رحلته منذ خروجه من مسقوط رأسه في سن ست سنوات، وكيف كان يشعر بالمرارة والأسى في أعقاب ضياع الحلم الوطن الفلسطيني، حيث ذهب إلى حلب السورية مع والده الذي سكن تلك المدينة العتيقة، والتي مرت بها عدة حضارات مثل: الحيثية والآرامية والفارسية والهيلينية والبيزنطية والإسلامية.
ومعروف أن مدينة حلب مسقط رأس "أبو فراس الحمداني" والتي احتضنت على مر التاريخ قدرا من المبدعين يضعها في مرتبة العاصمة الثانية بعد دمشق، ففي تلك المدينة العريقة بآثارها وأوابدها ومكتشفاتها يقطن عدد كبير من الشعراء والروائيين والفنانين الذين لم تجذبهم أضواء العاصمة الأولى وبهارجها، فظلوا أوفياء لمدينتهم العظيمة، ومنهم بالطبع "يوسف طافش" الشاعر الذي صدر عدة دواوين شعرية، منها: (رقصات الورد والجنون، تراتيل الرماد، الفضاء الأخضر، وكنعانيات، رعاف الليل، مرايا تشبهني، فضلا عن مسرحية شعرية للأطفال بعنوان الفضاء الأخضر، ومن المسلسلات التي شارك في كتابتها (حي المزار- الرجل س - ربيع بلا زهور- وتكلم الصمت - قلوب على الأسلاك - الدوامة - نساء حائرات - جبل الماس، وهي مسرحية غنائية).
وهو بالإضافة إلى ذلك كاتب أغان شهير منذ مطلع الستينات، حين كان لا يزال في مرحلة الدراسة الثانوية، إذ انطلق من إذاعة حلب، وارتبطت كتابة الأغنية لديه بوجوده في هذه المدينة، وبمجموعة من المطربين والملحنين حيث غنى له صباح فخري أغنيات دينية، ولأنه مسكون بالموسيقي التي درسها لطلاب المدارس فلم يقتصر على هذا اللون، بل كتب الأغاني العاطفية وأغاني الطرب والفولكلور الشعبي، فقدم خلال سنوات 61، 62، 1963 حوالى 60 أغنية منوعة، وممن صدحوا بكلماته "صباح فخري، محمد خيري، مها الجابري، سحر، الراحل سمير حلمي، فهد يكن، وعصمت رشيد.
حكى لي الشاعر "يوسف طافش" الذي يتمتع بوجه مشرق ويحتفظ ببراءة طفولية، فضلا عن امتلاكه لعينين لامعتين تتفجران بالموهبة رغم مرارة سنوات الغربة والضياع، وفي هذا النهار العفي في أجواء تختلط فيها روائح البهارات التي تتعانق مع أجواء روحانية مستمدة من مقام سيدنا الحسين، روي لي هذا الحكاء من طراز رفيع عن أيام وليالي حلب كواحة رحبة للفنون والآداب وكيف عاش مع رفاق جيله وضعا مأساويا في المنفى والمخيمات، ما لم يعانه شعب آخر على امتداد العصور والتاريخ، وومن هنا أدركت كيف حملت قصيدته في البدايات روح المعاناة والمأساة ومرارة الغربة عن الوطن، وركزت على صور ومشاهد المذابح الوحشية التي تعرض لها أبناء شعبنا في أرجاء فلسطين كافة،.
لقد ظلت قصيدة "يوسف طافش" الذي حمل القضية الفلسطينية على كتفه، تدور حول: أحداث النكبة، وواقع الفلسطينيين داخل الوطن المحتل ومخيمات الشتات، وعبر عواصم الغربة المفتوحة على مساحة العالم، كما كان كرفاقه - شعراء فلسطين - مدرسا للموسيقى وشاعرا يزرع في الأجيال الفلسطينية ومنهم "ثمانية من بناته": حب الوطن، والتطلع الدائم للعودة، وبناء أجيال الثأر والمقاومة، حيث يحمل شعره الهم الفلسطيني بكافة أبعاده، ويعبر بواقعية درامية مؤثرة ما عانى ويعاني منه شعبنا العربي الفلسطيني، سواء كان ذلك على مستوى الحزن والألم، أو على مستوى الأحلام والتطلعات.
صوره الشعرية جميعها نابعة من الواقع الفلسطيني، وقصائده هى الوجه الآخر لليوميات الفلسطينية المهمومة بوجع النكبة بآثار الوخيمة التي تمثل جرحا غائرا في الجسد الفلسطيني، وأحلام العودة، والمقاومة الطريق الوحيد إلى فلسطين الحرة الأبية، وقد ابتعد الشاعر "يوسف طافش" عن الترميز والتغريب في قصائده، وظل شعره صوت شعبه، وقصائده مغناة الأجيال القادمة، وحتما لابد للشهداء عنده من نصيب كبير في شعره، وللمقاومين:
أخبئ وجهي بكفّي شهيدٍ رأى الله قبلي
لأشعل عرس القنابل حتّى الصّباح
فبينك والموت نصف سلامه وظهرك لا يحتمي بجدار
أمرّ وحيداً بزنزانتين فأصرخ قهراً: لمن أنتمي!!؟
وينهض صوتك بين الرّصاص
يغني (العتابا) على من ترى تعتبين!!؟
هكذا صوته يأتي دائما في كل مناسبة شعرية أو عبر المهرجانات التي شارك فيها، أو من خلال أثير إذاعة حلب، لأنه باختصار نموذج يمثل قيمة ما يحمله الشاعر الفلسطيني خصوصا والشاعر العربي عموما تجاه فلسطين هوية وانتماء، ونكبتها حدثا قائما مازال في كيان العروبة حاد الضراوة والمرارة، وتربية مقاومة في الأجيال للثأر والعودة، وهنا تأتي الدلالة على روعة الاستشهاد عند أبناء شعبنا الفلسطيني الذي كافح ومازال يكافح منذ 73 عاما منذ نكبة 1947 وحتي الآن، وتأتي روعة الدّلالة في شعر "طافش" أن: فلسطين أبداً، أو المقاومة، والشهادة، ولا بديل لهذا القدر المحتوم.
لقد لمست من خلال قربي من شاعرنا الكبير "يوسف طافش" في أثناء لقائي به على مرتين في يومين متتالين، وعبر قراءاته الشعرية المتعددة لي في جلساتنا واستشهاده بقصائد ماتزال مختزنة في قاع ذاكرته، أنها تمثل الواقعية المركزة على اليوميات الفلسطينية حدثا .. تسجيلا وتوثيقا، خيالا يحوم حول فلسطين فلا يغادرها، وحول المخيمات، والمنافي، وتفاصيل مجريات الأمور والهموم فيها، والتساؤلات الموجعة الجارحة المبثوثة في الشعر، والوجدان والأعماق: لماذا؟ لم؟ كيف، وإلى متى؟! وإلى أين؟!، أسئلة تستمر بلا أجوبة!؟، وعتاب يذهب ضاريا إلى الذين يحكمون ولا يملكون قرارات!!؟، والذين يصمتون فلا يملكون حياة، والذين يستشهدون، ماذا يشكل استشهادهم من خطوات على طريق الثأر والتحرير والعودة!!؟.. هذا هو حاله الآني من خلال بوستاته الموجعة على الفيس بوك يوميا.. حيث يظل نزيف الدم الفلسطيني لا يغادر مخيلته، ومعاناة شعبه التي تؤرقه في كل لحظة يعيشها في غربته الإجبارية.
أطياف وظلال ظلت مخيمة على أجواء اللقاء الثاني بالحسين، حاول الشاعر الفلسطينيّ الكبير من خلالها أن يقترب من الغزل، فتجد فلسطين في سائر كيانه ومخيلته تسكن الذاكرة المتعبة، ومع كل أحماله الثقيلة الملاقاة على كاهله لاتفتر همته وأحلام العودة تظل ترواد تلك الذاكرة المتعبة، وماتزال ورعشة الهوى الوحيدة في نبضه ومشاعره حاضرة بقوة عبر حديثه العذب، وهو يحاول أن يقترب من الغناء لها، فيجد نفسه بين الجراح وبحة الناي الحزينة، ويحاول أن يهمس أحبك، فيجد الأرض تنهض وتمشي إليه بجذورها، وطيورها، وجبالها، وهضابها، وأحجارها، وأشجارها، وانهارها وشهدائها، ولوعة حنينها، وتهمس بضراوة الجرح والوجد:
(أحبّك!)..
الوجد الفلسطينيّ هكذا يأتي:
عيون المها حلوةٌ وعيناك أشهى العيون
وعند المغيب أرى فيك (صيدا) تمزّق ثوب الحداد
وترمي إلى البحر أحزانها
وملح الشواطئ في وجنتيها
يفتح ورداً على صفحة الأقحوان
ليأخذ شكل نسيان دمي
وكما نلحظ فإن القصيدة تتحدث عن صيدا كما تتحدث عن حيفا ويافا وعكا، عن غزة وصفد ونابلس، إنها ملفى للفلسطينيين، وواحدة من تراب العروبة، لا فرق ولا اختلاف: في الجرح والهم، في الوجد والحنين، في الألم والأمل.. صور رقيقة جداً.. قاسية جرحاً.. مهمومة إحساسا، ومشاعرا كغالبية شعرنا العربي الراهن!، وهذا ما أكد لي من خلال ترديده تلك القصيدة على مسامعي أن النتاج الكياني واحد في شعرية القصيدة لديه، واحد في كينونتها وكيانها، ومنبثقها الذي تنهض منه، فالمقاربة تقريبا واحدة الجرح والهم والمعاناة والمغنى.
ويبقى البعد الإنساني في شعر "طافش" هو الأعمق والأصدق، والأحد والأكثر ضراوة، جراء ما عاشه وعانه، وشاهده، وكتب ما كتبه بحبر دمه، ونزف محبرته، ومعاناة نسجت ضميرا شعريا حاد التوهج والبهاء!.. وهذا ما كتبه "يوسف طافش" بنبض قلبه عن بيروت، عن المحنة والمأساة، تماما كما كتب عن تراب فلسطين، فالتراب واحد، والهم واحد، والجرح واحد، والتطلعات واحدة، ومصيرية، وخالدة الارتباط واللّحمة تماما كما ردد هكذا:
في منتصف اللّيل يفاجئني الطّاغوت
وكطرفة عينٍ تسكن في جسدي بيروت
أجري، والشارع يسبقني
أتلفّت حولي... أغرق...
أطفو والرّيح تشيّع عرس اللّيلك في تابوت البحر
و .. (ميسا) تبكي.. تبحث عن دميتها ما بين المذبح والسّكين
من قال بأنّ (القرش) يحبّ عيون الأطفال!؟
(ألقرش) يطير، يحلّق، يهوي
يسحق عظم العجّز والأطفال
لتظلّ الوجبة ساخنةً في الأدوار السّفليّةَ!
هكذا كتب شاعرنا "يوسف طافش" صورا مؤثرة ومعبرة جدا عما يخوضه الوطن وعلى بيروت على وجه التحديد من أحداث جسام، والمواطن العربي ما عانى ويعاني من ويلات الخبز اليومي المر، ومن هنا يظل "طافش" واحدا من شعرائنا المبدعين الذين تركوا بصمتهم شعرا في شال فلسطين، وذاكرة الأجيال برغم آلام الغربة والتشريد التي عانها لأكثر من 74 عاما في المنافي والبعد عن تراب صفد التي لاتزال تسكن ذاكرته حتى الآن.
وفي مداعبة لنبش ذاكرة الماضي حاولت أن أستدرج شاعرا إلى منطقة الأغاني التي تمثل منطقة دافئة عنده فسألته عن حال الأغنية الحالية، فقال: "إن شيوع الإيقاع السريع في معظم الأغاني التي يطلقون عليها خطأ "الاغاني الشبابية"، ليس معيارا يعتد به في نجاح الأغنية، فهى أغنية لا تخاطب سوى الأكف والأرداف، هى أغنية رغوية من الرغوة لا تلبث أن تتلاشى بالسرعة نفسها التي صعدت بها، وإن كان يتفاعل الجمهور مع تلك الأغاني ذات الإيقاع السريع، فإنه يتفاعل أيضاً مع الغناء التراثي الأصيل، وهذا يؤكد بأن ما نقدمه للناس هو الذي يربي الذائقة وينمّي الوعي الجمالي.
مشكلة الأغنيات الجديدة - يقول طافش - إنها تكاد تكون "فوتوكوبي" عن بعضها، النص هزيل، واللحن فقير، معظم الأغاني حوالى 80 في المئة منها على لحن البيات، وهو جحش الملحنين مثلما البسيط جحش الشعراء، أنا لست ضد الحداثة، ولكنني ضد التخلي عن الواحات الوارفة في الأغنية العربية التي تربطنا بأصالتنا، مع حداثة المتصل، لا حداثة المنفصل عن التراث، وأظن أن هناك شبه اجماع على أن الأغنية تقوّم بنجاح مكوناتها الأساسية من كلمة ولحن وأداء، وليس بهذا التصنيف التعسفي شبابية وغير شبابية، فهناك من عمالقة الغناء العربي من قدم الأغنية الخفيفة إلى ألوان أخرى، ومنها ما يستهوي جيل الشباب، أما أن نكتفي بهذا اللون، فهي كارثة.
ويظل حديث الشاعر الفلسطيني يوسف طافش له صدى بالغ في نفسي بعذوبته وتدفقه الهادر بالقصص والحكايا عن مشواره مع الفن والحياة وثمانية من البنات أصغرهم النجمة العربية المبدعة "نسرين طافش"، أحب بناته إلى قلبه، حيث يراها زهرة فلسطينية يانعة زرع فيها الأمل وبث من روحه فيها الفن وحب الموسيقى والغناء والتمثيل الذي لاحظه عليها منذ الصغر فأصر على أن تستكمل دراستها الأكاديمية، لتتحقق نبوئته في النهاية بتربعها على عرش الدراما العربية الحالية .. تحية طيبة لك أيها الشاعر وسلاما محملا بالشوق من "القاهرة" إلى "أمستردام"، وأنت راقد في غربتك الموحشة في تلك المدن الباردة - بحسب تعبيرك لي - متعك الله بالصحة والعافية.