تمثل الدولة العثمانية المرجع الأكبر لدعاة الدولة الدينية المتطرفة فى عصرنا الحديث، ويعتبر العثمانيون أصحاب أكبر دولة استخدمت الإسلام فى سياستها الداخلية والخارجية ووظفت الفتاوى الدينية من أجل تحقيق أغراض دنيوية.
وكان السلطان العثمانى سليمان القانوني، أحد هؤلاء الذين صنعوا غطاء قانونيا لدولته، وقام بعمل منصب "شيخ الإسلام"، وجعله رئيس هيئة العلماء وأكبر شخصية فى الهيئة الإسلامية، حيث يرجع إليه الناس فى فتاويه، فضلا بأنه جعله يستصدر الفتاوى التى تصبغ سياسته بالصبغة الإسلامية.
العثمانيون تعاملوا بمبدأ "أنا الإسلام"
يرى الباحث فى التاريخ الإسلامى وليد فكرى، فى إحدى مقالاته "أن الدولة العثمانية تعاملت مع الدين بمبدأ أنا الإسلام والإسلام أنا"، وضع العثمانيون السهم الأخير فى الجسد البيزنطى المنهار أصلًا بقيام محمد الثانى بفتح القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة للدولة العثمانية، وما تبع ذلك من توسعات عثمانية فى أوروبا الشرقية والبلقان، فكان قيام سليم الأول بنقل القتال إلى جبهة شرقية ممثلة فى غزوه للسلطنة المملوكية يحتاج إلى عملية كبرى لإضفاء الشرعية عليه، وعلى الاحتلال العثمانى للبلدان العربية الإسلامية، حتى لا يُصَنَف آل عثمان كـ(فئة باغية)، وكذلك استمرار الدولة العثمانية فى احتلال بلاد العرب وتحمل الشعوب العربية لما صاحب الحكم العثمانى من ظلم واستنزاف للثروات وفساد إدارى وانهيار للخدمات وعلى رأسها الصحة والتعليم، وكان العثمانيون يحتاجون إلى مبرر يجبر الرعايا على تحمل كل ذلك ويجعلهم يحجمون عن الثورة".
شيخ السلاطين
يعد شيخ الإسلام، فخر الدين عجمى، الذى أمضى 24 عاما فى هذا المنصب خالف فيها الشريعة الإسلامية ليرضى نزوات سلاطين القصر، فأفتى بقتل الإخوة، وأباح معاشرة الجوارى والغلمان، وأجاز سفك دماء المعارضين، وحلل التصوير للأمراء وحرمه على الرعية، وتولى منصبه فى عهد مراد الثانى وبعدما دب الخلاف بين أولاده على خلافته، تقرب من السلطان وعرض عليه مجموعة من الآراء الفقهية التى تمكنه من تكفير المعارضين، وأصدر مجموعة من الفتاوى التى ملأت القصر بالدماء وأغرقت البلاد فى المذابح.
وتخلى "فخر الدين" سريعا عن ولائه لمراد الثانى بمجرد أن لمع اسم الأمير محمد (السلطان محمد الفاتح) فحرضه على الانقلاب على والده وعزله وتنصيب نفسه سلطانا على الدولة فى العام ١٤٤٤، كما أصدر فتوى "القتل باسم الدين" وتعتبر مسألة قتل الأخوة عادة عند سلاطين العثمانيين، والذى كان بمثابة تقنين الاغتيالات السياسية، ووسع فخر الدين دائرة سفك الدماء لتشمل المعارضين بفتوى أخرى أطلق عليها "البغى" تجيز قتل المنافسين له على العرش، معتبرا كل تمرد أو طموح فى السلطة جريمة ووصف مرتكبيها بـ "الباغين".
فتوى فتح القسطينطينية
عند فتح القسطنطينية أصدر فخر الدين عشرات الفتاوى التى مكنت السلطان محمد الفاتح من إعدام الإمبراطور البيزنطى وكبار قادة الجيش وصفوة رجال المدينة، إضافة للسماح له بأخذ نسائهم جوارى له.
كما بارك القوانين البيزنطية التى أصدرها السلطان تحت اسم "قانون نامه سي"، وبلغ عددها 75 تشريعا وأصدر فتوى تؤكد أن تلك القوانين الجديدة توافق إجماع المذاهب الإسلامية الأربعة، كما أباح رسم صور السلطان، وتعليقها على جدران القصر، فى الوقت الذى كان فيه التصوير محرما وفق إجماع شيوخ الإسلام، فى حين حرمها على العامة، وأفتى بتكفير المصورين والرسامين خارج نطاق القصور العثمانية، وحذر من يقدم على ذلك بالإعدام فوق الخازوق.
حروب الدولة الصفوية
حسبما ذكر كتاب "العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1916-1516) - تحولات بُنى السلطة والمجتمع" فإن الدولة العثمانية كانت ترى أن الصفويين والمماليك خطرا داهما على نفوذهم، وكانت المذاهب السنية تجمع العثمانيين والمماليك، فاستحل السلطان العثمانى على فتوى دعمته فيها فقهاء دولته تبيح قتل الصفوى وأتباعه ومجاهدتهم، فصدرت الفتاوى من عالميين هما حمزة سروغورز، وكمال باشزاده الشهير بابن كمال الوزير، بتسفيه القزلباش وإدانتهم وبإعلام الجهاد ضدهم، وأعلن كلا من الرجلين أنه يجب على كل مسلم القضاء على أتباعه الشاه إسماعيل، ويذكر أيضا أن العلماء أجازوا للسلطان سليم الاول قتل الشاه، فقاتله وانتصر عليه، ودخل عاصمته تبريز.
فتاوى قتل الشيعة والإيزيديين
وأصدر زنبيلى فتوى تجيز قتل الشيعة بالسلطنة، فأمر سليم بحصر عدد الشيعة فى الولايات المتاخمة لبلاد فارس بشرق الأناضول وقتلهم جميعا عام 1513، وبلغ عددهم 40 ألفا من قبائل القزلباش، ثم أفتى بإعدام أسرى معركة جالديران والتمثيل بجثثهم.
كما أفتى أبو السعود أفندى بقتل الإيزيديين، فشن سليمان القانونى حملة عليهم عام 1564، راح ضحيتها الآلاف وسبى نسائهم، كما ساعد فى تحليل الربا لدعم اقتصاد الدولة وقتها وصدرت الفتوى فى كتاب أطلق عليه "رسالة فى جواز وقف النقود"، تحايل فيها على النصوص الفقهية.
احتلال مصر
عمد السلطان سليم إلى استصدار فتوى من مشيخة الإسلام تبرر غزوته ضد المماليك، كان على رأس تلك المؤسسة شيخ الإسلام زنبيلى على أفندي، وكان هذا شخصا مثاليا بالنسبة لمقاييس وظيفته، ومستعدا لتبرير كل تصرفات سيده السلطان مهما كانت منافية لأحكام الشرع.
وفى فتوى زنبيلى لاحتلال العثمانيين مصر، اتهم المماليك صراحة بالإلحاد لأنهم يساعدون وفقا لرأيه ملاحدة الصفويين، أما الفتوى الثانية، فجاءت بناء على السؤال التالى للسلطان سليم: "إذا كان شعب تدين بالإسلام (أهل مصر والشام) يفضل أن يخلط أولاده بعائلات غير المؤمنين (الشركس) على أن يخلطهم بالمسلمين، فهل يحل قتاله؟!".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة