استكمالاً للحديث عن حروب الوعي المختلفة من خلال مصادره المتعددة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، سنتطرق اليوم لأحد أهم مصادر الوعي المباشرة و التي لها من التأثير ما هو أقوي و أشد من غيرها علي جموع الناس، حيث لها من القدسية ما له القدرة علي تحريك و توجيه القلوب و العقول .، و هي
( الخطاب الديني ):
و بما أن الدين له من القدسية والإجلال لدى غالبية البشر، فبكل تأكيد يعد الخطاب الديني أهم موارد تشكيل الوعي الجمعي المباشرة، وهنا تكمن خطورة هذا الخطاب إن لم يكن سليماً منزهاً عن أية أغراض سياسية أو اجتماعية تهدف إلى توجيه الناس توجيهاً معيناً لحسابات أخرى غير التعريف السليم بجوهر الدين.
و لكن بكل أسف، هذا الخطاب الموجه المسيس كان وما زال آفة جميع العصور منذ ظهور الأديان على الأرض، وحتى يرث الله هذه الأرض
بداية فى العصور المصرية القديمة (العصر الفرعونى):
كان رجال الدين (كهنة آمون) يستبدون بالمصريين ويلتهمون فى بطونهم الهدايا والعطايا التى يقدما الشعب كقرابين للتقرب إلى الآلهه حسب توجيهات كهنة المعابد وخدام الآلهه!
وقد قويت شوكتهم لدرجة كبيرة وامتدت صلاحياتهم إلى مشاركة بعض ملوك الفراعنة فى السلطة فى كثير من الأوقات،
حتى عندما ظهر الملك آمنحتب الرابع (إخناتون) ونادى بعودة عبادة الإله الواحد الأحد (آتون) والذى كان يرمز له بقرص الشمس، دخل فى صراعٍ محتدم مع الكهنة الذين استشعروا خطراً ما، نادى به على مصالحهم وهيمنتهم الكبيرة.
وقد انتهى هذا الصراع بمهاجمة كهنة آمون لمدينة تل العمارنة (أخيتاتون) وقتل إخناتون، ومن ثم استعادة السيطرة والاستبداد باسم الدين مرة أخرى.
(( اليهود ))
و إلى اليهود. وتقديسهم لـ (التلمود) الذى ابتدعوه من تعاليم التوراة والعهد القديم وحوروه بما يتناسب و شهواتهم وأطماعهم واعتنقوا وقدسوا هذا التلمود حتى أنهم يؤمنون بأن تعاليم حاخامات اليهود أهم من تعاليم التوراة نفسها، وأن مخافة الحاخامات من مخافة الله، والخروج عليهم كفر!
وهكذا أصبح لرجال الدين و خطابهم المؤثر السيطرة والكلمة العليا وتعاليمهم مقدسة لا خروج عليها على الإطلاق،
حيث أصبح الحلال والحرام مفصلاً حسب الهوى والمصلحة، والتلاعب بالدين وإقحامه فى السيطرة على السلطة والإستبداد أمر واقع.
(( المسيحيون ))
بعد انتشار المسيحة فى القرن الخامس الميلادى بحيث أصبحت الديانة الرسمية فى أوروبا فى بداية العصور الوسطى.
إذ اكتسبت الكنيسة ثراءً كبيراً وسلطة على حساب الملوك، كما تمكنت من بناء منظمة شبة سياسية للهيمنة على السلطة،
حتى أصبح آنذاك السؤال الأوحد هو : من له اليد الطولى فى البلاد، (الملك ممثل السلطة الشرعية أم البابا ممثل السلطة الروحية ؟ )...
وما تبع ذلك من تدنى وتدهور فى كافة مناحى الحياة، حيث اتسمت العصور الوسطى فى أوروبا بالظلام والجهل والتراجع التام،
إضافة إلى الغرق فى الخزعبلات والاعتقادات الساذجة من سحر وشعوذة وغيرها من آفات الجهل وسيطرة رجال الدين على عقول البسطاء..
فى حين كانت الأمة الإسلامية بتلك الآونة فى أوج تألقها وتقدمها من حيث انتشار العلم والفكر وكثرة العلماء الذين تمت ترجمة كتاباتهم إلى اللغات الغربية كلها ...
ولم تستطع أوروبا الخروج من هذا الظلام إلا فى بداية العصر الحديث عندما تخلصت من سيطرة واستبداد الكنيسة وتسلط رجال الدين..حيث عادت الأمور إلى ما يجب أن تكون عليه وبدأت الانطلاقة الحقيقية التى لم نقو نحن على مواكبتها حيث أصابنا ما كان سبباً فى تراجعهم سابقاً.
(( المسلمون ))
ظلت الدولة الإسلامية فى أوج عظمتها وتقدهما وكثرة علمائها ومفكريها، حيث كانت تسير كدين ودولة معاً ذلك حتى نهايات العصور الوسطى .
ثم حل التدهور بكثرة الصراعات على المناصب فى الخلافة الإسلامية بالعصر الحديث وما تبع ذلك من فتن ومؤامرات وقتل وخيانة تحت لواء دولة الخلافة .
ومع ذلك وبعد انتهاء تلك الحقبة ظهر من علماء المسلمين فى العصور الحديثة من المتنورين الداعين لنبذ القشور والخزعبلات التى ألصقها كثيرون بالدين والدعوة إلى الأخذ بجوهر الدين لا ظاهره أمثال ( جمال الدين الأفغانى وتلميذه الإمام محمد عبده صاحب المقولة الشهيرة عندما زار أوروبا "" رأيت هناك إسلاماً بلا مسلمين، وأرى هنا مسلمين بلا إسلام ) حيث قاد هؤلاء العلماء حركة إصلاحية تنويرية للقضاء على الجمود الفكرى وإعادة إحياء الأمة الإسلامية بما يتناسب مع تطورات العصر.
فكانت النتيجة الطبيعىة حرباً شعواء ورفض تام لتلك الأفكار من قِبل دعاة الجمود والرجعية .
وللأسف كثيراً مما ذكره التاريخ لنا عن الخلافة الإسلامية ما هو إلا مؤامرات وقتل وفتن ودسائس حيث الصراع على السلطة وانتقال الخلافة من عائلة فلان لعائلة علان، فما كانت سوى أرضٍ خصبة لإراقة الدماء وتبادل العداء والخوض فى الحروب والنزاعات ...
وكلما تجددت الدعوة لإحياء الخلافة الإسلامية مثلما دعى الإخوان المسلمين و مواليهم و تنظيماتهم ذات المسميات المختلفة و رأينا كيف يتم تكريس الدين وإقحامه بكل شكل ممكن من ترهيب واستقطاب للبسطاء من أجل تنفيذ المخطط الدنئ ومحاولة الإستيلاء على السلطة باسم الإسلام ودولة الخلافة القادمة، كلما تكشفت الحقائق وسقطت الأقنعة وبات من المؤكد أن الحكم الدينى لا جذور له ولا استمرار.
فالدين لله والوطن للجميع .... الدولة مدنية لها ديانة رسمية وتتسع لكافة الأديان الأخرى .
و بالنهاية لا ذنب للدين فيما يفعله السفهاء ممن يدعون أنهم رجاله .
و لنا أسوة بما حدث من تشويه للدين من خلال خطابات مشوهة مغلفة بأغراض بعينها لا علاقة لها بجوهره ، يتخذها هؤلاء الذين يختبئون بجحورهم يدبرون و يخططون وفقاً لسياسة النفس الطويل كما يفعل بني صهيون ، و يتخذون من الذقون و الجلابيب و كتاب الله و سنة رسوله مسلكاً لا يرضي عنه الله لتحقيق أهدافهم الدنيوية البحتة عن طريق التلاعب بمشاعر البسطاء و تحريكهم و توجيههم بأهم محرك يقدسه البشر و هو الدين .
نهاية :
فنحن بصدد تطوير و تجديد الخطاب الديني بما يتناسب و مستجدات العصر الحديث و لغته و تطوراته لجذب قطاعات من الشباب و المراهقين الذين انصرفوا عنه بعد خطاب ديني منفر استمر ببث السموم و الأخذ بالقشور و التقاليع الملصقة باطلاً بجوهر الدين الوسطي السمح المعتدل ،
نظراً لكون هذا الخطاب الديني أحد أهم موارد الوعي المباشر ذو القوة و التأثير علي بني البشر أجمعين.
و إلى لقاء جديد مع حروب الوعي و تأثيراتها بالمجتمع