كنا فى باريس، زوجى الراحل الكاتب على الشوباشى، وأنا، وشقيقتى فايزة فى زيارتنا، عندما دق جرس الهاتف والتقطه على، ثم امتقع وجهه الى درجة لم أشاهد مثلها فى حياتى، وبعد ثوان معدودة، اعتلى الاحمرار كل قسماته، ومن الأصفر إلى الأحمر، لم أتبين ما قاله الطرف الآخر، بل ما سمعته فقط، مجرد تساؤلات لعلى، مثل «أكيد»؟ والفرحة تقفز من عينيه، ثم وضع سماعة الهاتف وأنا أسأله بلهفة: «فيه إيه يا على؟»، أجابنى ودموع الفرح تزغرد فى عينيه: «عبرنا»، واندفع إلى الخارج فى طريقه إلى وكالة الأنباء الفرنسية، التى كان يعمل بها، والتى استدعته فى يوم عطلته الرسمية، لجلال الحدث، انفجرت فى البكاء بدرجة أعجز عن وصفها، وسألتنى أختى، بلوعة: «مالك؟! مش ده اليوم اللى كنتى بتستنيه؟!»، لم أجد ما يفسر حالتى، وأخذت أتابع قنوات التليفزيون الفرنسى، وموجات الإذاعة، وكلها تتشكك فى إمكانية نجاح العبور، وكان أحدهم يشكك فى البيانات المصرية ويضيف: «إن هزيمة عربية ترتسم فى الأفق»، حتى مر اليوم السادس والمعارك مستعرة، والولايات المتحدة أقامت جسرا جويا لنقل أسلحة بكميات مهولة، وفى استقبال الطائرات بمطار بن جوريون، وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر ورئيسة حكومة إسرائيل جولدا مائير، بدءا من اليوم السابع للحرب، تغيرت لهجة الاستخفاف إلى لهجة جدية، خاصة ونحن نشاهد على الشاشات، حالة الانهيار المعنوى داخل إسرائيل، والبطولات الأسطورية التى تسجلها قواتنا المسلحة والقوات السورية الشقيقة على جبهات القتال، كما كان مراسلو القنوات التليفزيونية، ينقلون حالة الشوارع فى الدول المتحاربة، ويعربون عن دهشتهم من كون القاهرة تعيش حياتها العادية، بينما تل أبيب خالية من الناس، ورغم بكائى لدى مفاجأة إعلان العبور، فقد كنت واثقة من النصر، حيث أرى أن حرب الاستنزاف، التى أرهقت إسرائيل وأدمتها، قد بدأت مساء التاسع من يونيو عام ٦٧ عندما هزمنا الهزيمة، ولنا أن نتخيل، هل لو لم نخرج بالملايين نؤكد للقائد الذى استهدفه الأعداء، أننا سنقاتل ونقول لعبدالناصر: إحنا الشعب أصحاب الحق، لأول مرة نقول لك لأ، رفضا لتنحيه، هل لو لم نقف فى ذلك المساء كان يمكن أن تقوم حرب الاستنزاف؟ وهل كان العبور واردا، لو لم تكن هناك حرب الاستنزاف؟
أتذكر أن موقفنا ليلة التاسع من يونيو قد أوقع الأعداء فى حيرة لم يخرجوا منها أبدا، حيث كانوا يرفعون كؤوس الشراب احتفالا بتحقيق الهدف من العدوان الرهيب، على أساس أن هزيمة عسكرية ساحقة تعنى رحيل الزعيم، غير أنهم صعقوا بموقف لم يجدوا له تفسيرا فى كافة وسائل التكنولوجيا، ولم يكونوا على استعداد لمواجهة مثل هذا الموقف، فأجهزتهم تطلعهم بدقة على عدد الأسلحة المتوافرة لدى الجيش المصرى، غير أن هذه الأجهرة أثبتت فشلا ذريعا فى قراءة الوجدان والعقل والقلب لشعب أذهل العالم بتحقيق انتصار ساحق لإرادته، هزم الهزيمة وأذاق العدو مرارة لم يذقها إلا فى حرب الاستزاف، بعد أيام فى رأس العش، وإغراق المدمرة إيلات وفى مواجهات لا تحصى ولا تعد داخل سيناء، وقد قال أحد رجال المخابرات الإسرائيلى، عام ٢٠٠٦، على ما أتذكر: «إن حرب الاستنزاف هى أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها إسرائيل ضد العرب»، ولن ننسى أبدا أن رئيس الأركان المصرى، بطلنا العظيم، الفريق عبدالمنعم رياض قد استشهد على جبهة القتال عام ١٩٦٩ فازداد الإصرار على مواصلة القتال حتى النصر، إن الإرادة المصرية لن تعلو عليها إرادة أخرى، كما أكد الرئيس السيسى، كل عيد نصر ومصر من تقدم إلى تقدم بفضل وحدتها، شعبا وجيشا.