عادل السنهورى

هكذا انتصرنا.. اللواء حسن والعسكرى مسعد حنا

الإثنين، 05 أكتوبر 2020 02:19 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تدق أجراس مطرانية المنيا، إيذاناً باستكمال إكليل العريس مسعد حنا عبد المسيح ابن قرية تله، على مريم جرجس قلادة، كان ذلك فى مايو من عام 74.. وبعد أن انتهت الحرب بستة أشهر تقريبا.

يجلس العريس مسعد أمام المذبح مع عروسه يرتدى جلبابا أبيض ويلف رقبته بشال أبيض، نحيف القوام جاحظ العينين طويل الوجه مع شارب خفيف أسفل أنفه المدبب، كان زائغ النظرات، ينقل عينيه سريعا فى قلق بين المدعوين وباب القاعة الرئيسية، ويرسم على وجهه ابتسامة باهتة

لاحظت العروس قلق عريسها فسألته عن سبب قلقه، ابتسم وقال: ما فيش حاجة، وراح يتمتم: ربما لن يأتي، ربما لم يصله التليغراف، ربما كانت مشغولياته تمنعه. صعد القسيس على المسرح المقام أمام المذبح ليبدأ إجراءات الإكليل، بدأ يتلو صلواته وسط سكون المدعوين

وفجاة علت همهمة بين الحضور بدأت وتيرتها ترتفع، استرعى ذلك نظر القسيس الذى أوقف الصلوات، دخلت مجموعة من أمناء الشرطة داخل القاعة، يتبعها مأمور قسم المنيا، بدأ الجميع يتوجس خيفة، أنهم قرويون بسطاء، لم يروا هذا المأمور إلا فى المناسبات الكبرى ويوم وقفة رمضان والعيد...أيكون معزوما ؟ وفى فرح من ؟ مسعد ابن فريال؟ أرتسمت على وجه مسعد بعض الطمأنينة

تقدم المأمور وجلس فى الصف الأول، وفجأة بدأت الهمهمة تتزايد، ثم بدأ المدعون يقفون للزائر الجديد، ويطلقون الزغاريد، وتلتهب أكفهم بالتصفيق! لم يكن الزائر سوى اللواء أركان حرب "حسن أبو سعدة" قائد الفرقة الثانية مشاة-وقتها- والتى كانت طليعة الجيش الذى اقتحم خط بارليف، وما أن رآه مسعد حتى سحب يده من يد القسيس وقفز من فوق المسرح مهرولا نحو الزائر الجديد، تعانقا طويلا، صاح مسعد والدموع تختلط بكلماته "كنت عارف يا فندم إنك مش هاتكسر بخاطرى وهاتحضر جوازى رغم مسئولياتك ومشاغلك"، ربت اللواء على كتف مسعد وقال "الوعد يامسعد"

اصطحب مسعد اللواء حسن الى الصف الأول وجلس بجانبه ناسيا العروس والإكليل حتى نبهه القسيس، صعد للمسرح وعيناه لم تزل معلقة على اللواء وبمجرد أن انتهى من إتمام الإكليل صعد اللواء حسن الى خشبة المسرح وأمسك بالميكروفون ..."لقد جئت من مسافة 650 كيلو لأحضر فرح مسعد، وفاء لوعد قطعته على نفسى أمامه.

يحكى البطل اللواء حسن أبو سعدة حكايته مع العسكرى مسعد حنا عبد المسيح أمام أهله وأهل القرية.." هذا الرجل الذى يجلس أمامكم ليس رجلا عاديا. إن بطولاته تدون فى كتب. لن أنسى أول مرة رأيته فيها، كان أشبه بالطفل الذى ضاع من أمه فى الزحام، يخاف من كل أحد وكل شيء، ينظر لما حوله بتوجس، فهو لم يخرج من حدود قريته وتم تجنيده.. أخذوه من الدار الى النار، أشفقت عليه، ضممته الى المجموعة الخاصة بي، كنت أراه ينظر للدبابة فى دهشة بالغة وأحيانا كنت أراه يدور حولها ليكتشف هذا الكائن الاسطوري

.."ذات يوم دخل مكتبي، وطلب أن ينضم لفرقة الآر بى جى التى تنظمها القيادة، قلت له ان هذه الفرقة قاصرة على المتعلمين وأنت لا تجيد القراءة ولا الكتابة، فجأة مال على يدى ليقبلها حتى أوافق، رأيت فى عينه إصرارا غريبا، قبلت على مضض وتحت مسئوليتي. المفاجأة أنه كان الأول دائما على جميع أفراد الفرقة"

يواصل اللواء حسن أبو سعدة حكاية مسعد حنا ." بدأت الحرب وعبرنا القناة وكان هو فى مجموعة القناصة. هاجمنا اللواء 190مدرع بقيادة عساف ياجوري، تصدت له كتيبة الآر بى جيه وعلى رأسها مسعد، كان كل صاروخ على كتفه يساوى دبابة، لم يخطئ مرة واحدة، نفدت ذخيرته الصاروخية، وفجأة لمح دبابة تهرب من ميدان المعركة وتكاد أن تفلت، فجأة ينطلق خلفها مسعد يسابق الريح، يقفز على مؤخرتها كالنمر الكاسر، يفتح باب برجها ويلقى بداخله بقنبلة يدوية، ثم يقفز بسرعة رهيبة، لتتحول الدبابة الى كتلة من النيران، ثم تاتى مجموعة من العربات المجنزرة ويتم التعامل معها، تتعطل عربة ويهبط منها ضابطان يجريان ناحية الأحراش، ينطلق خلفهما مسعد دون انتظار أى أوامر بالاشتباك، يغيب لدقائق ثم يعود ووجهه مضرجا بالدماء وهو يسحب أحد الضابطين من قدمه ليلقيه أمام زملائه

ثم يعاود الدخول للأحراش مرة أخرى كنمر يعرف جيدا بقايا فريسته، تأخر فى العودة ..كنت قلقا عليه جدا ..ماذا حدث له ..؟ هل ادفع بمجموعة من الجنود لمساعدته..؟، فجأة يخرج مسعد بنفس الصورة ساحبا الضابط الآخر من قدمه. هذه المرة يسقط مغشيا عليه، نقلته للمستشفى، لأفاجأ فى اليوم التالى به يقف أمامى وقد غطى وجهه وزراعه بالضمادات، عاد وهو يحمل على كتفه مجموعة جديدة من الآر بى جيه. نلتحم ثانية مع تبة حصينة ويكون مسعد أول المقتحمين"

"تنتهى الحرب ويسلم مسعد مهماته العسكرية، يتقدم منى على استحياء ويعانقنى ثم يقول لى "لى عندك طلب يا فندم، أنا هاتجوز قريب، ممكن تشرفنى فى الفرح" ربت على كتفه وقلت له "أعدك يامسعد". يصلنى بالامس تليغرافه، لم أكن أستطيع التخلف عن هذه المناسبة، إعتبرتها واجب قومى وأقل شئ يقدم لهذا البطل"

ينتهى اللواء حسن أبو سعده من روايته المثيرة عن مسعد. والصمت يحلق فوق الجميع. العروسة مثلها مثل باقى أهالى القرية تسمع هذا الكلام وتنظر لمسعد غير مصدقة وتتساءل ..أهذا الشاب الخجول يصنع كل هذه البطولات، تهمس أم العروس فى أذن ابنتها "ده اللى كنتى مش عايزاه يابنت الكلب"!. يستأذن اللواء حسن فى الانصراف ويصر مسعد أن يترك عروسه ويوصله لمحطة القطار، وقفا سويا يستعيدان ذكريات الحرب، ثم أقبل القطار فأخرج اللواء حسن مظروفا دسه فى جيب مسعد، ثم قال له وهو يودعه "عايزك راجل فى بيتك زى ما كنت فى الحرب" يضرب مسعد على صدره بفخر "إحنا أسود يافندم"

يعود مسعد للمطرانية ليستكمل فرحه، ليفاجأ بالمطارنة والقسوس وقد اصطفوا فى استقباله كحرس شرف، هذا يسلم عليه وهذا يقبله وذاك يعانقه، وبعد تسعة أشهر يرزق مسعد بمولود ذكر، يصر على أن يسميه حسن ولم يعترض أحد فمن كان يستطيع أن يعارض أسدا بمخالب وأنياب ومن كان يعترض بعد شاهد تلك العلاقة الإنسانية بين القائد والجندى فى معركة الشرف والمجد والبطولة.

هكذا انتصرنا.. وهكذا سوف ننتصر.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة