كان رهان العدو عقب هزيمة 5 يونيو 67 على استسلام المصريين وخضوع القيادة المصرية للهزيمة وخرجات تصريحات قادة إسرائيل تحمل نبرة الصلف والغرور والاستعلاء والاستخفاف بقدرة المصريين على الحرب والقتال مرة أخرى، وأن أمامهم مائة عام حتى يفكروا فى قتال إسرائيل، لكن من رحم الهزيمة لاحت رايات النصر على الفور بالرد السريع من الشعب المصر بالتمسك بقائده وبداية مرحلة الصمود والتحدى.
فى العلوم العسكرية فالنصر لا يتحقق على جبهات القتال وانما قبل ذلك يتحقق أولا بوحدة وصمود ووعى الشعب فى الداخل او ما يسمى بقوة الجبهة الداخلية.
فى ظنى أن مفاجأة رفض الشعب المصرى للهزيمة وإعلانه الإصرار والعزيمة على تحرير أرضه وانصهاره فى بوتقة الوطن وتضحياته بكل ما يملك من أجل الثأر والنصر لا تقل عن مفاجأة يوم العبور يوم 6 أكتوبر 73.
الشعب المصرى عن بكرة أبيه - عدد سكان مصر تقريبا كان يتراوح ما بين 32 و34 مليون نسمة - كان السند والدعم لجيشه والمحفز له على النصر في جبهات القتال فوق أرض سيناء ..كانت رسالة الشعب لجيشه واضحة.. نحن معكم ووراءكم مهما كانت التضحيات ومهما كان الثمن.. ولذلك فقد تحقق النصر المبين بفضل شعب الجيش وجيش الشعب.
ظهرت أصالة وعراقة المصريين فى وقت الحرب .. الكل كان فى واحد والواحد كان يضحى من أجل الجميع .. مصر كانت فى عيون وفى وجدان وفى ضمائر وفى أحلام كافة طوائف الشعب.. لا شكوى من الغارات واصوات أبواق الانذار .. لا شكوى من استشهاد المدنيين فى المصانع والحقول والمدارس ..لا شكوى من ندرة التيار الكهربائى.. ولا شكوى من أى نقص فى الخدمات أو فى المواد التموينية. لم يضيق المصريين بمعيشة الحرب بل تحمل الجميع ما هو فوق الطاقة وصبروا وآمنوا بإرادتهم فى النصر .. اقتسم المصريون لقمة العيش وبزغت معانى الإيثار والإخاء والتكافل الاجتماعى فيما بينهم.
كانت أولى المفاجآت، هى انتفاضة المصريين للتبرع بكل ما يملكون من أموال وذهب للمجهود الحربى وانهالت التبرعات على القوات المسلحة لتعويض خسائرها واعادة بناءها مرة آخرى..
وكان الاستعداد للمعركة يتم جنباً إلى جنب مع ترميم الجبهه الداخلية وترميم النفوس والأفراد والتعويض عن الممتلكات وعن تدهور الأحوال المادية والمعنوية، فأصدر رئيس الجمهورية قراراً فى أبريل 1973 بتشكيل لجنة تعويضات الحرب من وزارات ومحافظات أصابتها الأضرار، ولذلك لحصر الأضرار وفق ضوابط محددة وواضحة وعرضها على مجلس الوزراء لإقرار التعويضات، وقد جعل القرار تبعية هذه اللجنة لنائب رئيس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور عبدالعزيز حجازى. وفى نفس عام النصر وقبل نشوب المعركة، كانت الدولة حريصة على تضميد جراح المهجرين من مدن القناة واستثنت الدولة أبناءهم من انتظار الدور للتعيين فكانت تقوم بتعيينهم بمجرد تخرجهم، ولذا طلبت وزيرة الشئون الاجتماعية الدكتورة عائشة راتب موافقة لجنة الخدمات بمجلس الوزراء بتعيين أبناء المهجرين الحاصلين على المؤهلات العليا والمتوسطة، الذين تخرجوا فى 1973.
القيادة الذكية فى ذلك الوقت مدت جسور الثقة والتواصل بين الشعب والجيش ..ووافق مجلس الوزراء فى 19 يناير 1972 على اقتراح الفريق محمد أحمد صادق، نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية فى ذلك الوقت، على قيام القوات المسلحة بتنظيم زيارات لأفراد الشعب المصرى إلى جبهة القتال، وبخاصة من الطلبة والطالبات.
ساعة الصفر للحرب تقترب والجبهه الداخلية تثبت ساعاة بعد ساعة ويوما بعد يوم أن الحائط القوى الصلب الذى يستند عليه الجيش فى معركة الشرف والمجد..
لم تواجه حكومة الدكتور عزيز صدقى - وزارة الإعداد للحرب - ومن بعدها وزارة الحرب برئاسة الدكتور عبد العزيز حجازي اية صعوبة فى تجاوب الشعب مع كل اجراءاتها من أجل الاستعداد للحرب.. الشعب كان يفاجئ حكومته كل يوم.
مع بداية الحرب وطوال فترة المعارك تراجعت معدلات الجريمة فى الشارع المصرى وكادت سجلات الشرطة أن تخلو من الجرائم الجنائية. فقد كشفت السجلات حينها أن المحاضر والبلاغات بأقسام الشرطة والنيابات خلت خلال الأيام الثلاثة الأول من الحرب من تسجيل سوى الجرائم المعروفة لدى أجهزة الأمن بـ«الجرائم العارضة».
الأغلبية العظمى من البلطجية واللصوص خلال تلك الفترة العصبية انضموا لحركات المقاومة الشعبية، وذلك طبقا لما كشفت عنه الإحصائيات والتقارير الصادرة عقب المعركة. حتى المطاريد فى جبال الصعيد أعلنوا توقفهم عن ارتكاب الجرائم والاستعداد للتطوع فى الحرب- كا يذكر الروائى الكبير بهاء طاهر فى روايته "خلتى صفية والدير".
مسألة تراجع معدل الجريمة وقت حرب 73 يرجع للعديد من العوامل النفسية والإجتماعية للشعب المصرى الذى تظهر فيه بشكل واضح قيم التضحية والإثار والتسامح فى الشدائد والأزمات، وهو ما كشفت عنه إحصائيات وتقارير وزارة الداخلية التى سجلت عدم وجود بلاغات أو محاضر لمدة 3 شهور قبل الحرب وبعدها واكتملت المدة حتى منتصف نوفمبر. الجريمة تراجعت فى حرب أكتوبر 73 نتيجة الشعور بالحس الوطنى لدى المصريون بضرورة تغييب المصلحة العامة وتجميد الخلافات الشخصية، ولذلك كانت المجالس العرفية داخل الأحياء والقرى هى التى تقوم بحل النزاعات القائمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تسجل حالة سرقة واحدة رغم أن أصحاب المحلات كانوا يتركون محلاتهم فى العراء دون حراسة فى أوقات الغارات لتكاتف الشعب.
المفاجأة الأخرى للشعب المصرى ..عندما دعت وزارة الصحة وقت الحرب المصريين الى التبرع بالدم.. فامتلأت المستشفيات ومراكز ووحدات التبرع بالدم بملايين الشعب ..فما كان من وزير الصحة وقتها الدكتور محمود محفوظ-رحمه الله- ، في فيديو بثته قناة وزارة الدفاع المصرية على موقع اليوتيوب، الا أن يطالب المواطنين بالتوقف عن التبرع بالدم، لأن جميع "ثلاجات" الدم في جميع مراكز التبرع بالدم في جمهورية مصر العربية بدءا من ساحل المتوسط إلى أسوان امتلأت..!!
هذا هو الشعب المصرى البطل المعلم ..يستيقظ ويهب وينهض ويحقق المعجزات والمفاجآت عندما تناديه مصر ليفتديها ويحميها ويعيد اليها عزتها وقوتها وكرامتها.
لقد تحقق النصر على العدو وهزيمته على "حائط الصد" للمصريين بوعيهم وتوحدهم وصلابة ارادتهم وقوة عزيمتهم وثقتهم فى جيشهم، قبل يبدأ دك حصونه ووتنهار خطوطه المنيعة تحت أقدام أبناء الشعب أبطال الجيش المصري.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة