في إطار الفعاليات الفنية والفكرية الـ 1003 التي نظمتها وزارة الثقافة في القاهرة والمحافظات بمختلف المواقع الثقافية احتفالا بالذكرى الـ 47 لانتصارات أكتوبر المجيدة، تأتي الندوة التي نظمها المركز القومي للترجمة برئاسة الدكتورة كرمة سامي، كأهم حدث ثقافي له أثره البالغ من جهة توثيق هذا النصر العظيم لسببين، الأول: مناقشة كتاب (انتصار أكتوبر في الوثائق الإسرائيلية) والثاني: تكريم المترجم الراحل (إبراهيم البحراوي)، والذي بذل جهودا مضنية في سبيل ترجمة تلك الوثائق التي حجبت لمدة 40 عاما، وتشمل شهادات لكل من (جولدا مائير، رئيسة الحكومة، وكبار رجال الدولة الإسرائيلية آنذاك، ومنهم سكرتير رئيسة الوزراء، نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، وزير الدولة للإعلام، وزير السياحة، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست) وغيرهم من قادة وضباط الجيش الإسرائيلي الذين أدلوا بشهادات حية تؤكد تفوق المقاتل المصري.
الندوة التي أدارتها الكاتبة الصحفية هالة العيسوي، وشارك بها كل من؛ الدكتور صابر عرب، اللواء محمد عبد المقصود، والدكتور أشرف الشرقاوي، واللواء نادر الأعصر، أوضحت مجددا فحوى حديث الدكتور إبراهيم البحراوي في مقدمة الكتاب الذي يضم خمسة أجزاء من القطع الكبير، عن مدى الصعوبة التي واجهتها لجنة الترجمة برئاسته وإشرافه للحصول على نصوص الوثائق، والتي نشرها أرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلي باللغة العبرية، بعد حجبها لمدة أربعين عاماً، ومن خلالها حرص جيش الاحتلال الإسرائيلي على حذف مقاطع كثيرة من هذه الوثائق، وتتراوح بين كلمة أو كلمات عدة أو فقرة أو صفحة أو صفحات عدة، وهو أمر ذو دلالة، إذ أن هناك أمورا تريد القيادة الإسرائيلية إخفاءها، ربما لعلة تتعلق بالحالة المعنوية للإسرائيليين وأسرار الأمن الوطني.
ولعل أهم الدروس التي استفاد منها المحتل الإسرائيلي من هزيمته في تلك الحرب - طبقا لرأي الدكتور البحراوي - ضرورة إنشاء أكثر من مركز لإعداد وتقديم التقديرات حول احتمالات الحرب بعد أن كان الأمر متروكاً للاستخبارات العسكرية (أمان) وحدها حتى حرب 1973، والتي ثبت فشلها في كشف خطة الخداع الاستراتيجي التي وضعتها القيادة السياسية المصرية بمعاونة كبار قادة الجيش المصري، وواضح جدا أن هناك حذفاً متكرراً في شهادات كبار المسؤولين، الحذف يظهر عندما يسأل أعضاء لجنة (أجرانات) أحد هؤلاء عما إذا كان المحذوف يتعلق بالفترة الحرجة السابقة الحرب مباشرة، أو عن مدى دقة تقدير الموقف الذي اعتبر الحشود المصرية على القناة مجرد مناورة.
إننى أرجح من قراءتى للوثائق العديدة - يقول الدكتور البحراوي - أن المخابرات المصرية قد استطاعت اختراق نظام التنصت الإسرائيلي، وبالتالى استخدمته فى تمرير معلومات مضللة إلى المخابرات الإسرائيلية لإخفاء النوايا الحقيقية وراء الحشود المصرية، الدليل على ذلك ما ذكره وزير الدفاع موشيه ديان من أن جهازى المخابرات العسكرية والموساد "المخابرات العامة" ظلا مصممين حتى دخول ليل يوم الخامس من أكتوبر ومجىء يوم السادس من أكتوبر على أن احتمال الهجوم المصرى احتمال ضعيف، ويتوقف الدكتور البحرواي لحظة قائلا : "سأترك تفاصيل هذا الاكتشاف للمخابرات المصرية إذا أرادت أن تعلن عنه بعد مرور كل هذا الزمن.
ولأن انتصارات أكتوبر تمثل ذكرى خالدة تشهد على حماسة المصريين وعبقريتهم في التصدي للتحديات، كما قالت الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة، والتي أشارت إلى أنها جسدت أسمى معاني الوحدة الوطنية التى تجلت في التفاف الشعب حول قواته المسلحة لتحقيق ما كان يظنه الآخرون مستحيلا، وتحقيقا لأهداف وزارة الثقافة المصرية في أن تعمل على إحياء هذه الذكرى وإبراز أثرها على المجتمع خاصة النشء والشباب من خلال كافة الوسائل والفنون الإبداعية، وذلك لخلق أجيال جديدة أكثر وعياً بقضايا الوطن التي يجب اجتيازها لتحقيق تنمية وطنية مستدامة ، لذا جاءت فعاليات ندوة (المركز القومي للترجمة) لتؤكد تلك المفاهيم التي هدفت إليها وزيرة الثقافة في تحقيق الرسالة التي ينبغي توصيلها للأجيال الحالية.
ولعل من أهم الرسائل التي هدفت إليها تلك الندوة التي تحدث فيها كوكبة من الخبراء عن ترجمة تلك الوثائق، وينبغي توصيلها للشباب المصري الحالي، هو معرفة ماذا فعل الأباء والأجداد في تلك الحرب التي كانت مستحيلة بموازين القوى في تلك الأيام، كما ترجع أهمية دراسة هذه الوثائق أيضا، إلى أن كثيرا من المعلومات المتداولة فى الإعلام حول الهزيمة العسكرية والصدمة الإسرائيلية ونجاح خطة الخداع الاستراتيجى المصرية ترد مستندة إلى وثائق رسمية تجعل المعلومات حقائق نهائية، وتجعل الروايات تاريخًا موثقًا أمام الأجيال الجديدة غير قابل للنفى أو الإنكار من جانب المصادر الإسرائيلية، فان هذه الوثائق تدحض الإدعاء الاسرائيلى حول نتيجة الحرب وتكشف أبعاد الهزيمة فى ميدان القتال أمام الجيش المصري.
ورغم مرور أكثر من أربعين عاما على الحرب، فقد قرر رئيس الوزراء الاسرائيلى حجب عدد لم يحدد من الوثائق مستندا إلى أن القانون يسمح له بمد فترة حظر نشر وثائق الدولة الى خمسين عاما، هذا الميل لإخفاء أمور بعينها يمتد إلى بعض أجزاء من الوثائق التى تم الافراج عنها، وقد مُيز هذا فى بعض الوثائق التى تمت ترجمتها بعبارة (حذف بواسطة الرقابة العسكرية الإسرائيلية)، من ناحية أخرى فإن دراسة هذه الوثائق سوف تعين الباحثين العسكريين والسياسيين على كشف أسباب التناقض فى الروايات التي قدمها القادة الإسرائيليون فى مذكراتهم المتضاربة عن مسار الحرب وعن مسئولية كل منهم عن الهزيمة، كما أن محتوى هذه الوثائق خاصة فيما يتعلق بالدور الأمريكى المباشر فى الحرب يكشف زيف المحاولات الإسرائيلية لانتحال الانتصار ، وذلك عندما نتبين من نصوص الوثائق أن طريق القوات المصرية إلى داخل إسرائيل كان مفتوحا لولا تدخل الولايات المتحدة بالعتاد والرجال والسلاح المتقدم آنذاك.
وقد كشف المتحدوثون في ندوة (المركز القومي للترجمة) عن دقة وحنكة الدكتور البحرواي، كمترجم بارع وباحث دؤوب في الشأن الإسرائيلي، وذلك من خلال تناوله لما نشر في أرشيف دولة إسرائيل وأرشيف الجيش الإسرائيلى، والذي يقترب من عشرة آلاف صفحة من وثائق حرب أكتوبر السرية، التى تم حذف العديد من الأجزاء المهمة منها فى محاولة لإنكار النصر، لكننا تمكنا من اكتشافها - يقول البحراوي - عندما حاولنا كفريق بحث مصرى الاطلاع اكتشفنا أن الجيش الإسرائيلى وضع عقبات تكنولوجية عديدة تحول بين الباحثين المصريين بالتحديد وبين الاطلاع على نصوص الوثائق.
ويضيف البحراوي: اكتشفنا أيضاً أن الباحثين الذين يدخلون إلى موقع أرشيف الجيش من دول أخرى غير مصر يسمح لهم بذلك، واكتشفنا أيضاً أن الوثائق منشورة على الموقع بطريقة تحول بيننا وبين طبعها فى نسخة ورقية - هنا أتوقف بقدر من الاحترام والإجلال لهذا الرجل الأكاديمي المصري العظيم - أمام قوله: (أقول لكم بصراحة إن مشاركتى المباشرة فى المعارك ضد إسرائيل بدءاً من حرب 1967 ومروراً بحرب الاستنزاف ووصولاً إلى انتصار أكتوبر 1973 علمتنى ألا أستسلم أمام الموانع التى تضعها إسرائيل وجيشها على غرار خط حصون بارليف على حافة القناة الذى كان يهدف إلى منعنا من العبور، توكلت على الله وقبلت التحدى فأنا أرى أنه من حقنا الوطنى، كمصريين، أن نطالع هذه الوثائق لنتعرف بدقة وبالتفاصيل على الآثار التى أوقعناها فى صفوف القيادات السياسية والعسكرية والمخابراتية).
في مقدمته (الحماسية)، أشار الدكتور إبراهيم البحراوي، إلى حقيقة مهة وهى إنه من حقنا أن نتيح لباحثينا الشبان فى المجالات المختلفة فرصة الدراسة العميقة للتجربة واستخلاص الدروس المستفادة تحسباً ليوم تقرر أطماع التوسع الإسرائيلية أن تتمدد مرة أخرى فى سيناء، ولهذا استطاع فريق مصرى من شباب تكنولوجيا المعلومات أن يعاونه فى تجاوز العقبات ووضع يده على ما هو حق لنا، أى جميع الوثائق فى أصولها العبرية، وأوضح أن حجب الإسرائيليين أهم وثائق حرب أكتوبر سنوات طويلة، "لا لشيئ إلا لكي يخفوا حقائق الانتصار المصرية، ويحفظوا معنوياتهم من الانهيار"، قبل أن يبدأ الإفراج تباعاً عن وثائق الحكومة والجيش، في الذكرى الخامسة والثلاثين للحرب، بعد أن تخطت فترة الحظر المسموح بها في قانون تداول المعلومات، لتصل عملية نشر الوثائق الإسرائيلية إلى ذروتها عام 2013 في الذكرى الأربعين للحرب.
الوثائق التي حققها ودققها الدكتور البحراوي بحرفية تبلغ أعدادها المنشورة 118 وثيقة تقريبا، يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: الأولى تضم محاضر اجتماعات المجموعة القيادية الوزارية لإدارة الحرب بين يومي 6 أكتوبر و9 أكتوبر 1973، والثانية تضم شهادات المسؤولين السياسيين والعسكريين والقادة الميدانية أمام لجنة إجرانات التي تشكلت بعد الحرب، للتحقيق في أسباب التقصير الذي أدى إلى الهزيمة، والتي نشرت محاضرها رسمياً أول مرة عام 2012، لكن يبقى الأروع في ترجمة الدكتور البحراوي أنه يفاجئ قارئ الوثائق المترجمة بأن جريدة "يديعوت أحرونوت" سبق لها أن نشرت المجموعة الأولى من الوثائق، فضلا عن أن الجيش الإسرائيلي نشر بعد ذلك كل هذه الوثائق على موقعه الإلكتروني، لكن البحراوي يضيف في كتابه القيم - الذي سيبقى أهم وثيقة على براعة المقاتل المصري - أن الجيش الإسرائيلي وضع "عقبات فنية تحول دون الإطلاع عليها بسهولة، بالنسبة للباحثين المصريين، تحديداً، والداخلين إلى الموقع من مصر".
ومن دون أن يشرح طبيعة هذه العقبات، يشير إلى جهد قام به فريق من خبراء المواقع الإلكترونية للتغلب على تلك العقبات، بفضل دعم قدّمه له شخص وصفه بأنه "رفيق الخندق والوجدان الوطني، الأستاذ ع. م"، من دون أن يشرح سر ذكر اسمه بالأحرف الأولى، ليترك للقارئ المصري الواعي بقضايا بلاده تخمين أن هذا الشخص على علاقة ما بجهاز الأمن القومي التي توجب على منتسبيها حظر هوياتهم، إلى أن يصلوا إلى عمر معين، ويصبحوا خبراء استراتيجيين، ويصبح من حقهم الظهور علناً لممارسة الهذر المؤامراتي والثرثرة الاستراتيجية.
المهم في كل ما سبق أنه ينبغي التنبيه إلى أن إسرائيل لم تكن شفافة تماماً في إتاحة وثائقها لمواطنيها، كما يخبرنا الدكتور البحراوي في مقدمته، فبرغم مرور كل هذه السنين على الحرب، حذفت الرقابة العسكرية الإسرائيلية مواضع عديدة في الوثائق، خصوصا ما يشير منها إلى مصادر معلوماتها الاستخباراتية، لتتراوح أحجام المحذوفات بين كلمة وعدة صفحات، كما قررت الحكومة الإسرائيلية حجب عدد غير محدد من وثائق الحرب، استنادا إلى قانون يمد فترة حظر نشر وثائق الدولة إلى خمسين عاما، لكن يبقى أن نقول أن استعراض بعض ما احتوت عليه جميع الوثائق المترجمة، يحتاج إلى مجلدات لسردها في سياقها الصحيح، بقدر ما أثارته بداخلي من مشاعر الفخر والتقدير لبطولات الجيش المصري في حرب أكتوبر، التي أذهلت القادة الإسرائيليين، كما تكشف الوثائق.
وفي النهاية تبقى التحية واجبة للدكتور، إبراهيم البحراوي، وفريق المترجمين المكون من الأساتذة "منى ناظم ـ منصور عبد الوهاب سعيد العكش ـ مصطفى الهواري - حسن عبد البديع - أشرف الشرقاوي ـ بدوي محمد ـ عادل مصطفى ـ سعد سنجر ـ عبد الله حمدي"، فضلا عن تحية واجبة للمركز القومي للترجمة، الذي أنتج هذا العمل الوطني الضخم والعظيم ليظل من أهم النقاط المضيئة التيا تعيشه الحياة الثقافية المصرية الحالية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة