التنوع سمة مهمة وضرورية نحتاجها في الطرح السينمائي بشكل عام، سواء في العملية الانتاجية أو التعددية في الموضوعات والأشكال الفنية والجمالية، ما يمنح العمل السينمائي حيوية مترعة بالخيال والجمال، وهو ما نلمحه بشكل واضح في الدورة 36 لمهرجان الاسكندرية لسينما دول البحر المتوسط، هذه الدورة الاستثنائية التي تواجه تحدياً كبيراً؛ وإن كان المهرجان ذاته واجه تحديات أخرى من قبل منها مواجهته لأحداث العام 2013 وإصرار إدارته على الانعقاد، إنما التحدي هذا المرة لا يتعلق بالشأن الداخلي؛ بل يمتد إلى ما هو أوسع ويشمل العالم بأكمله؛ حيث وباء عاصف يعطل كل شيء حتى صناعة السينما، "كورونا" أو "كوفيد 19" أو أياً كان اسمه ووصفه، يطغى على الحياة ويعيد ترتيبها وفق جموحه في الانتشار، وقدرة البشر على المواجهة والاستمرار، في لحظة كانت قد تعطلت مشاريع التصوير وأغلقت صالات العرض ثم عادت بإشغال نسبي، واستحدثت أساليباً جديدة للمشاهدة عبر منصات ومواقع متخصصة مختلفة، وإن كانت هذه المنصات بدأت منذ فترة قبل كورونا، كما تأجلت مهرجانات سينمائية وأقيمت أخرى عبر الوسائط الإليكترونية، ما يعني أن هناك تغييرات حتمية تتعلق بالفيروس المستجد، هناك أيضاً حضور جارف للمقاومة، ليس قناع الوجه وحده ما يمنح العالم هيأته الجديدة؛ لكن يوجد أيضاً هذا التشبث بالحياة والتواصل مع مقومات الزمن الجديد؛ المستجد.
على الرغم من صعوبة الوضع الراهن، إلا أن مهرجان الاسكندرية في دورته التي حملت اسم الفنان عزت العلايلي، سعى إلى اختيار مجموعة متنوعة من أفلام 2020، متعددة المحتوى والإطار الفني الذي يحافظ على الجماليات السينمائية والصنيع البصري إجمالاً، تعرض هذه الأعمال في مسابقتيه: الأفلام الطويلة، الأفلام القصيرة، ومن هذا المنطلق أحب أن أشير إلى الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة التي كشفت عن نفس سينمائي مختلف ومتباين لمجموعة من المخرجين الشباب الطموحين، لديهم فكرة وحلم بالتطور في العمل السينما بشكل كبير، خصوصاً أن الفيلم القصير لازال تائهاً في مدارات مجتمعاتنا؛ حتى وإن حمل تطوراً كبيراً في صناعته، ومن الأفلام المعبرة عن هذه الفكرة و شاركت في هذه الدورة، المغربي "ألوبسي" (15 دقيقة إنتاج 2020)؛ سيناريو وإخراج مهدي عيوش، إنتاج: مولاي عبد الله السباعي الركراكي، صوت : أمين عروم، تمثيل: نفيسة بنشهيدة، عصام أبو علي، صوفيا صماني، هيبة بناني.
الفيلم هو التجربة الثالثة لمخرجه مهدي عيوش في ساحة الأفلام القصيرة، التي يترجل فيها بثقة المتمهل الذي يبحث عن نقطة ترسخ تجربته وتقوده إلى مساحة أوسع، من الوهلة الأولى بدا "عيوش" متمكناً أكثر في عمله الثالث الذي يؤكد انضمامه إلى قائمة مخرجي المغرب، هؤلاء الذين درسوا الإخراج السينمائي خارج المغرب وتخصصوا به، وهو في فيلمه هذا لا يقدم موضوعاً محلياً؛ يخرج من أطلس المغرب أو جغرافيته في الجبال أو المدن، إنما هو موضوع إنساني مفتوح خارج الحيز الجغرافي، ربما الأمر لا يستدعي دهشة كبيرة؛ سيما أن هناك أفلام مغربية أخرى خرجت من إطار التقليدية والمشهدية المحلية المغربية المعتادة، لكن ما يسترعي الانتباه هنا، هي مجموعة التضادات التي جمعها المخرج الشاب مهدي عيوش في نصه الذي يخلص إلى نهاية كوميدية مكلومة بأسى داخلي، نقائض درامية اختارها بعناية وقدمها خلال 15 دقيقة في توليفة لا يُستهان بصنعتها، وتظهر إنحيازاً واضحاً إلى الموضوع النسوي.
تبنى قصة الفيلم على المفارقة التي تتفجر في واقع عبثي، طرفاه المرأة والرجل، يبدو الأمر في البداية أنها مكالمة تليفونية تأتي على خط الدعم النفسي، وهو أمر شائع في كبريات المدن، حيث يستقبل المتخصصون إتصالات هاتفية من مجهولين لأجل الاستماع إليهم ومرافقتهم في حل مشاكل حياتهم وضغوطاتهم النفسية، فتطالعنا ماريا (نفيسة بن شهيدة) الطبيبة النفسية وهي تتلقى إتصالاً من هشام (عصام أبو علي) رجل على وشك الانتحار، يلجأ إلى الدعم النفسي كأخر فرصة يمنحها لنفسه، مباراة في التمثيل بين طبيبة حيادية المظهر ورجل موتور، منفعل، هي تحاول إقناعه بالبقاء، بينما تتخلل المكالمة مشاهد تختصر حالات من التوتر العنيف بين الرجل والمرأة، لابد أن يتماهى معها المتفرج ويصعد معها إلى الذروة لدرجة ما من التورط في الحدث، حتى الطبيبة نفسها وهي على الطرف الأخر المحايد تأتي لحظة، تنخرط بوعيها الباطن في الحكاية، ما عبر عنه المخرج في مشهد شديد الرهافة، ظهرت فيه على شفا السقوط مع سقوط كوب الماء، اختلاط يعبر عن التورط في النزاع الإنساني المؤلم والذي يقدمه الفيلم على طريقة أنه لم ينج منه أحد.
نهج مهدي عيوش اشتغاله السينمائي بحصافة لينأى كثيراً عن التقليدية، متجهاً نحو نوعاً من التجديد مزج بين واقعية موضوعه وامتدادات في الشكل البصري كما في السينما الروسية، هذه السينما التي درسها مهدي عيوش في أوكرانيا ويحذوها كمثال طموح في الولوج للعمق السينمائي، تقنية سرد سريع وتقطيع أسرع يكشف عن مونتاج واعي ومونتير واعد (وليد المسناوي)، ويأخذنا بمضمون حيوي إلى مشهد بصري وجمالي بكاميرا ويسلي مروزينسكي، ثم تضيف الموسيقى التصويرية للمؤلف الموسيقي جويل بلغريني جمالاً على جمال الشكل أيضًا، وتتوغل بنا إلى موضوع متأتٍ من راهنٍ قاسٍ منبثقٌ من عجزٍ إنساني ما، يحاول الفيلم أن يلتقط نبضه وحالته في مسار يتحرر من الكلاسيكية، لنتوقف عند مخرج مهتم بالصورة ويمتلك خصوصية جمالية في تقديم الحكاية، وهي خصوصية تكرس لحضور مخرج سينمائي قادر على المواصلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة