حجم التصويت فى الانتخابات الأمريكية، هذه المرة، غير مسبوق، وهو نتاج حالة استقطاب شرسة بين الديموقراطيين والجمهوريين، وهو استقطاب بدأ فى الانتخابات الماضية بسبب شخصية دونالد ترامب، الجديدة على عالم السياسة الأمريكية، فضلا عن اطمئنان الديمقراطيين إلى فوز هيلارى، فقد بدا ترامب مرشحا غير مرحب به من النخبة الأمريكية، وأسهمت شخصيته وتصرفاته «غير المتوقعة» فى تغذية هذا الشعور، يضاف لذلك الدور الذى تلعبه السوشيال ميديا فى تغيير طريقة التلقى والبث والدعاية والتسويق السياسى، فقد لعبت هذه الوسائل دورا فى تغذية الاستقطاب من جهة، وصناعة حالة من الحماس فى أوساط السياسة.
وجود أدوات التواصل، أسهم فى تضخم الدعاية وتسليط الأضواء على ما يجرى بشكل يختلف عن الماضى القريب، عندما كان الإعلام التقليدى يحتكر النشر والبث، ويتحكم فى صياغة ما يجب أن يعرفه الرأى العام، وبالرغم من معركته الشرسة ضد الإعلام، وهى معركة خسر فيها، فقد نجح أيضا فى سحب الكثير من الهالة التى تحيط بموضوعية والتزام الإعلام.
كشفت الانتخابات عن انحيازات واضحة للصحف والمحطات، لم تنجح أغلب المنصات فى إخفائها، وكان واضحا أن أغلب وسائل الإعلام تقف فى صف الديمقراطيين وجو بايدن، فى مواجهة دونالد ترامب، ويمكن القول عن الإعلام كسر الكثير من هيبة الرئيس بشكل أقوى مما جرى فى السابق، وفى المقابل نجح ترامب فى تقليل هيبة الإعلام الأمريكى، وكشف عن انحيازه وعدم حيادتيه، ولجأ إلى تويتر، بل ونجح فى تعويض ما فعله الخصم القوى.
وقد أسهمت السوشيال ميديا فى صياغة الدعاية بشكل جديد، فقد كانت هذه الوسائل أسرع وأكثر تركيزا فيما يتعلق بنشر الاتهامات والصدامات أثناء الدعاية الانتخابية، واستعملها الديمقراطيون والجمهوريون بشكل كبير، فقد نجح الديمقراطيون فى تحميل دونالد ترامب المسؤولية أمام الرأى العام فى قضية فيروس كورونا، واستغلوا حالة ارتباك أصابت ترامب من البداية ودفعته لتوزيع الاتهامات بدلا من المواجهة، وعندما حاول ترامب تعديل خططه كانت الحملة أتت نتائجها.
لكن السوشيال ميديا أيضا منحت ترامب الفرصة للدعاية المضادة واتهام الديمقراطيين، وقطاعات فى «الدولة العميقة»، بالتزوير، فقد أعلن ترامب، منذ البداية، أن السماح بالتصويت عبر البريد من دون ضوابط يفتح الباب للتلاعب، وبدا أن تصويت نحو 100 مليون بالبريد أمر مثير، خاصة أن أغلبه كان للديمقراطيين، وهو ما فتح الباب لترامب ليجدد اتهامه بالتلاعب ويسارع باللجوء للمحكمة العليا.
ومع الأخذ فى الاعتبار، أن الاتهامات بالتزوير هى أمر تقرره المحاكم، ويدخل ضمن الدعاية المضادة، فقد بدا الأمر لافتا ومثيرا للسخرية، لأنه قدم الولايات المتحدة الأمريكية، الإمبراطورية الأقوى، فى صورة من يستعمل أساليب كانت دائما محط انتقاد من الأمريكان والإدارات الأمريكية لدول العالم الثالث، منها تقديم وجبات «بيتزا» من الديمقراطيين للناخبين، على طريقة «الزيت والسكر»، أو اتهامات بتكرار التصويت، والكشف عن ناخب مات منذ 36 عاما، وعاد للحياة ليصوت لصالح الديمقراطيين.
وأطلق الجمهوريون هاشتاج «#Sharpiegate»، أى «فضيحة شاربى»، حيث قالوا، إنه تم منحهم «أقلام شاربى» الملونة، والتى لا تستطيع آلات فرز وحساب الأصوات قراءة البطاقات المكتوبة بها، لكن إدارة الانتخابات ردت بأن هذه الأقلام تمنع تلطخ البطاقات بالحبر.
هذه الاتهامات مع أصوات الموتى المحتملين، وتكرار التصويت، بجانب التصويت الكبير بالبريد ورفض استبداله بالتصويت المبكر، تمثل أزمة، وبالطبع يرد الديمقراطيون ليتهموا ترامب بالمبالغة ومحاولة إخفاء خسارته.
كل هذه التفاصيل تشكل جزءا من حالة الاستقطاب والصراع، والتى تسهم فى نقل الخلافات للمحكمة العليا، كما أنها أظهرت الولايات المتحدة كـ«أمة منقسمة»، وهو ما يعيدنا إلى عصر السوشيال ميديا، الذى تلعب فيه أدوات التواصل دورا بارزا فى هذا الانقسام، بل أيضا لأنها سلطت ضوءا كاشفا أزال هالة أحاطت بشكل الأداء السياسى والانتخابى، الذى ظل دائما نموذجا غير قابل للانتقاد.