على الرغم من مرور 47 عاما، تبقى في حرب 6 أكتوبر 1976 أسرار كثيرة لم يتم الكشف عنها حتى الآن، ومنها بالطبع قصة 32 يوما - نعيش ذكراها حاليا - تمت فيها عملية "نيكل جراس"، التي تطلق على الجسرالاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، وكما كان شائعا فإن الجسر الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل ربما كان هدفه تغيير موازين الحرب بعد حدوث الصدمة والرعب لهم من جانب القوات المصرية - من يوم السادس من أكتوبر وحتى يوم 13 أكتوبر بداية تدفق المعدات والزخائر لإسرائيل بشكل رسمي - حيث جرت خسائر كثيرة على الأرض ما جعل (جولدا مائير) تصرخ في وجه الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون قائلة: (إلحقونا نحن نحترق .. الجيش المصري على وشك تدميرنا)، ومن جانبه اعترف نيكسون بعد ذلك قائلا: لو لم نمد الجسر الجوى إلى إسرائيل لما كان فى مقدورها الصمود أكثر من 48 ساعة أخرى.
لكن الذي لايعرفه كثيرون أن عملية "نيكل جراس" - كما قال لي اللواء أركان حرب طيار هشام الحلبي، مستشار أكاديمية ناصر العسكرية - في الواقع كانت تتكون من جسرين، أحدهما الجسر الجوي الشهير، والذي نقل إلى إسرائيل حوالي 22,5 ألف طن من الأسلحة النوعية المتطورة في 32 يوما، والثاني هو الجسر البحري الذي يعد الأضخم من حيث حجم المعدات والأسلحة الثقيلة حيث نقل 63 ألف طن أخرى - ويظل الجسر البحري هو الجزء الخفي في عملية نيكل جراس حتى الآن ، ومن غير المعلوم أيضا أن هذه المساعدات العسكرية تدفقت بعد يوم واحد من بداية الحرب بشكل غير رسمي، حيث تم شحن 200 طن من الإمدادت يوم 7 أكتوبر في مهمة سرية وفي طي الكتمان، ثم بدأ ت عملية "نيكل جراس" في التنفيذ على محورين "جوا وبحرا" وبشكل رسمي من ( 13 أكتوبر إلى 14 نوفمبر 1973)، وذلك على أثر تزايد الخسائر الإسرائيلية بصورة غير متوقعة.
لقد تصور الأمريكان والإسرائيليين أنها ستكون حرب خاطفة، قد لاتستغرق أكثر من 72 ساعة وترجح كفة العدو الإسرائيلي تماما كما حدث في 1967، لذا فإنه في يوم 7 أكتوبر - أي بعد يوم من واحد من عبور قواتنا المسلحة - بدأت تتضح الأمور، حيث فوجئت إسرائيل بمئات الألآف من الجنود المصريين على الجبهة الشرقية بعد انهيار خط كامل بارليف المنيع، وأن هناك خطة محكمة ومتكاملة الأركان من جانب الجيش المصري بدعم عربي، وكذا الحال على الجبهة السورية التي مثلت نوعا من الضغط الآخر على إسرائيل، ومن ثم تحطمت أسطورة الجيش الذي لايقهر.
وفي هذا الصدد (يقول الحلبي): منذ يوم السابع من أكتوبر تشكلت لجنة أطلق عليها "لجنة WSAG" اختصار لـ ""Washington Special Action Group، ويشرف عليها الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" بنفسه، وتتكون من وزير الخارجية "هنري كيسنجر" الذي كان معينا لتوه على رأس الدبلوماسية الأمريكية، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، ووزير الدفاع، ورئيس المخابرات (CIA، إضافة إلى السفير الإسرائيلي "سيمحا دينتز"، وبدأو في النقاش الساخن حول الوضع المتأزم على الجبهة بفعل استغاثة "جولدا مائير"، حين بكت بدموع حارة في حديث تليفوني لنيكسون في صباح السادس من أكتوبر، قائلة (إنقذونا من ذلك الطوفان العربي).
ومنذ تلك اللحظة بدأت حدة التوتر تظهر على وجه السفير الإسرائيلي الذي انخرط في متابعة اجتماع اللجنة التي تشكلت لإنقاذ ماء وجه أمريكا وإسرائيل، وعن كثب يرسل تقاريره الفورية عن سير التطورات إلى رئيسة الوزراء "جولدا مائير" في محاولة للسيطرة على حالة اليأس التي أصابتها، وكانت اللجنة في بداية اجتماعاتها قد أدركت جانبا كبيرا من الكارثة التي حلت بجيش ظل يردد طويلا بأنه لايقهر، وأن خسائر إسرائيل حتى صباح ذلك اليوم (7 أكتوبر) قد وصلت إلى 35 طائرة من طراز "فانتوم"، فضلا عن عدد كبير من طائرات "سكاي هوك"، مما كان له أبلغ الأثر على عمق الجبهة والأمن القومي الإسرائيلي، كما ظهر من أول يوم في الحرب، ومن هنا قررت اللجنة ضروة تزويد إسرائيل بإمدادات عاجلة وبأية طريقة ممكنة، وهو مايشير إلى بداية تشغيل الجسر الجوي بطريقة سريعة.
يشير اللواء طيار (الحلبي) هنا إلى نقطة مهمة: بأنه لابد أن نفرق بين الإمدادات الأمريكية السريعة لإنقاذ الجيش الإسرائيلي بعد يوم واحد من بداية الحرب، والتي كانت عبارة عن 200 طن على وجه السرعة كما ذكرنا سابقا، وتم الدفع بها يوم 7 أكتوبر، وبين عملية "نيكل جراس" المتكاملة، والتي بدأت رسميا يوم 13 أكتوبر، من إنطلاقة "الجسرالاستراتيجي" الذي يشمل الجسر الجوي والجسر البحري في آن واحد، وقد لفت نظري من خلال متابعي لسير العمليات وجدت أنه عندما وصلت خسائر الطيران - بحسب دراسة روجر دبليو هانسن - إلى 40 طائرة "فانتوم" بدأ التوتر يزيد بشكل أكبر، من خلال اتصالات "جولدا مائير" المتكررة، خاصة أن خرائط مسح الجبهة المصرية التي أوردها كل من "جيم شلتون وجاري كاليمن"، قائدي طائرة الاستطلاع "SR 71 Black Bird" اللذين قاما بمسح كامل للجبهة المصرية إلى اللجنة أوضحت أن خسائر الإسرائيليين على الجبهة فادحة، كما أن خسائر الطيران تلك تعد ضربة قاصمة لجيش العدو آنذاك، نظرا لأن طائرة "الفانتوم" تحديدا هى واحدة من طائرات الجيل الثالث الذي له قدرة هائلة في الوصول إلى العمق المصري.
على أثر فقدان إسرائيل لهذا العدد الهائل من الطائرات، بدأ التوتر يعتري الإدارة الأمريكية نفسها في واشنطن، وقالوا لابد من إمداد إسرائيل ببديل فوري يلجم تقدم المصريين، حتى يتسنى إجراء عملية متكاملة، وهو ما يحتاج إلى تخطيط، فلم يكن متوقعا أن يكون الأمر بهذا القدر من السوء والخسائر على الجبهة الإسرائيلية، وبدأت مراحل التخطيط الفعلية لعملية (نيكل جراس - Nikal Grath)، وبصورة جدية وسريعة جراء وضع إسرائيلي متأزم، ومع إلحاح "جولدا مائير" وحالة التوتر التي تزيد على ملامح وجه السفير الإسرائيلي في واشنطن، ناهيك عن اهتمام متصاعد من جانب "نيكسون" شخصيا، كان هنالك خوف على انهيار دولة إسرائيل تماما.
كما يبدو واضحا جليا في خلفية المشهد أن أمريكا لايمكن أن تسمح بتفوق أجيال قديمة من السلاح الروسي في قبضة الجيش المصري، وهو ما بدا في اتخاذ خطوات متسارعة نحو عمليات الشحن والتفريغ، وطالبت "جولدا مائير" الرئيسي الأمريكي بتعويض إسرائيل بطائرة "فانتوم" مقابل أي طائرة تسقط من سلاح الجو الإسرائيلي، وهو ما شكل عائقا كبيرا، فحتى مصانع "لوكهيد" أوغيرها لايتوفر فيه هذا العدد من الطائرات التي يمكن أن تعوض إسرائيل طائرة بطائرة، ومن هنا بدأت نبرة الخلافات الحادة بين وزير الدفاع الأمريكي وباقي أعضاء لجنةWSAG ، في المرحلة الأولى من التخطيط لـ "نيكل جراس"، والذي رفض رفضا قاطعا فكرة "جولدا مائير" التي تقضي بتعويض إسرائيل بطائرة فانتوم كبديل لأي طائرة تسقطها الدفاعات الأرضية المصرية، باعتبارها سابقة لم تحدث في التاريخ من قبل، خاصة أن أمريكا ستمد إسرائيل بطائرات سحبا من قوتها القتالية الأساسية العاملة في سلاح الجو.
وهذ الأمر بالنسبة لأمريكا يشكل خطورة كبيرة بالطبع، لأنه سيؤثر سلبا على كفاءتها إذا ما تعرضت لهجوم مفاجئ في تلك اللحظات، وفي النهاية وبعد نقاش ساخن استقر أمر اللجنة وبموافقة وزير الدفاع الأمريكي على إمداد إسرائيل بطائرة "فانتوم" مقابل سقوط طائرتين في المعارك مع الجيش المصري، والغريب أن الرئيس نيكسون بنى قراره بالموافقة لإمداد إسرائيل بطائرة مقابل طائرة - يوضح اللواء الحلبي - بأنه على أساس أن مصانع "لوكهيد" تحتوى على عدد منها لم يدخل الخدمة ضمن قواته ، لكن رأيا كان من وزير الدفاع رئيس أركان القوات الأمريكية هو الذي رجح رأي اللجنة في اتخاذ قرارها بطائرة مقابل طائرتين تسقطها الدفاعات الأرضية المصرية.
لكن السؤال الذي ربما يتبادر إلى ذهن الكثيرين منا الآن: لماذا الكتابة عن عملية نيكل جراس في وقتنا الحالي؟، وأجيب: لقد قصدت ونحن نعيش ذكرى أجواء تلك العملية أن أشير إلى نقطة غاية في الأهمية لابد أن تعرفها الأجيال الحالية من شبابنا وهى: أنه على قدر من السرية في التخطيط لعملية "نيكل جراس" من جانب لجنة WSAG، ظلت محتويات الجسرين "الجوي والبحري" غير معلومة لأحد سوى إسرائيل باعتبارها الطرف الأصيل، وللأسف الشديد فإن مصر لاتملك وثائق في هذا الصدد من حيث الكم أوالكيف في نوعية السلاح الأمريكي الذي زودت به إسرائيل، لكنها بالطبع معروفة تفصيليا في حينها لكل من أمريكا وإسرائيل من خلال جدول يومي دقيق لنقل الإمدادات، وبعض منها بالطبع جاء على لسان "روجر دبليو هانسن" قائد طائرة الشحن ( سي 5 ) التي كانت تتولى العشرات منها نقل المعدات على مدار الساعة في خلال 7 أيام من الأسبوع.
تبقى عملية نيكل جراس وبعد مرور 47 عاما على حرب السادس من أكتوبر 1973، ما تزال تحمل في طياتها كثير من الغموض حول نقل 65 ألف طن من المعدات والذخيرة لإسرائيل، وهنالك أسرار تتعلق بتورط دول وحكومات أوروبية في السماح للطائرات الأمريكية بعبور أجوائها وهى في طريقها لمطار (اللد) الإسرائيلي، حيث كانت تلك الطائرات تفرغ حمولتها على الأرض، ويقوم الخبراء المصاحبين لها بإعادة تركيب تلك المعدات في أسرع وقت ممكن حتى يتم الدفع بها خلال ساعة واحدة فقط إلى ساحة المعارك، وذلك بحسب "روجر دبليو هانسن" قائد طائرة الشحن الأمريكية "سي 5" في مذكراته حيث يقول:
عندما لامسنا الأرض لم أرى في حياتي هذا الكتل البشرية من الذين جاءوا ليعبرو عن سعادة حقيقية وامتنان لرؤيتنا، ورؤية الإمدادات التي تحملها وسيلة مواصلاتنا في بطنها الكبير، وفور الهبوط اصطحبونا إلى غرفة عمليات أعدت سريعا، مجهزة بكراسي الدرجة الأولى من "شركة العال"، وأطعمونا وجبات كان من الواضح أنها من نفس مطابخ العال، وعندما انتهينا عدنا إلى طائرتنا متوقعين بالطبع أن نرى جزءا من الحمولة مايزال في طور التفريغ، ولكن لدهشتنا كانت الطائرة مغلقة تماما وزودت بالوقود واختفت حمولتها كلية، وحدثنا الطاقم الأرضي بابتسامة كبيرة على وجهوهم قائلين أن الحمولة غالبا تستخدم الآن على إحدى الجبهات.
ستظل عملية "نيكل جراس" راسخة في أذهان الإسرائيليين بأنها كشفت حقيقة الجيش الذي لايقهر، فعلى حد قول جولدمائير: "إن وصول طائرات النقل الأمريكية (س 5) ناقلة العتاد والسلاح بصورة مستمرة أنقذ إسرائيل مما لم يكن تحمده عقباه، وإننى أذكر أنه عندما اتصلت يوم 7 أكتوبر بسفيرنا فى واشنطن مرة أخرى قال لى إننا فى الساعة الثالثة صباحا، ولا أستطيع أن أوقظ أحد من المسئولين الأمريكين الآن، فقلت له لا يهمنى كم تكون الساعة الآن، إن الموت يأكل جنودنا، وإن كل ساعة تأخير تكلفنا الكثير جدا، أيقظهم جميعا، اتصلت بالدكتور كيسنجر فورا، وقد رد كيسنجر بأن الطائرات العملاقة من طراز "س5 جالاكسى" قد تلقت أمر الرئيس بنقل كل ما تطلبه".