بعد نحو عامين على تحقيقه فيلم "أمينة" (2018)، يقدم أيمن زيدان بكل ما يملكه من حب وغضب وألم، في فيلمه الروائي الطويل الثاني "غيوم داكنة" (عرضه الأول في الدورة 36 لمهرجان الإسكندرية السينما لدول البحر المتوسط)، لوحة سينمائية مدهشة وشديدة الحساسية، بما تحمله من تفاصيل هائلة تتراكم وتصنع مشاهد منغمسة بمشاعر مؤثرة ومواقف صادمة، تختصر الحالة السورية المترعة بالشجن والحزن، حالة مبعثها الحرب والدمار الذي استشرى في أوصال البلد وداهم أرواح البشر، اتكأ فيها أيمن زيدان على نمط بصري خاص بها، يكشف جغرافيا الموت والحياة في واقع تعس، نراه في أطلال البيوت وظلالها القلقة على الشوارع، كما نلمسه في محاولاته لإعلاء الشأن الإنساني والحياتي، خلال مضمون ملتبس الأبعاد الدرامية والجمالية ومتوغل في مأزق الفرد السوري الناتج من الحرب.
ثمة براعة أخاذة في الفيلم الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما في سوريا، وشارك في بطولته وائل رمضان، رامز عطا الله، لينا حوارنه، حازم زيدان، لمى بدور، نور علي، محمد زرزور، محمد حداقي، كما شارك أيمن زيدان في كتابة السيناريو مع ياسمين أبو فخر، هذه البراعة نتلمسها في ذهاب الفيلم إلى أقصى التعابير البصرية الصامتة، كادرات بعين حساسة تصور خطوط قوة الغضب والرغبة في الانعتاق من هذا البؤس، ومن التباسات العيش على تخوم الوجع والتمزق، ما تجعل "غيوم داكنة" معادلة موضوعية لمشاعر وتأملات، كأنها مرآة تكشف اختلال العيش في متاهة بلد وتُشرِّح نفوساً تواقة إلى أفق للخروج، ربما ترى هذا الأفق من زاوية ما، لكنها تعجز عن بلوغه والوصول إليه، فكل شيء باهت، جاف، داكن، بما يوحي من الوهلة الأولى أنه لا شيء واضح يحدد المسار، لكن هناك نقطة ضوء تسكن في ركن ما، هي أمل هؤلاء البشر في مقاومة الراهن الصعب.
أفلام قليلة تصنع من الراهن في مجتمعها صوراً، تدعم قراءة اللحظة وتحاول التقاطها كما يفعل "غيوم" داكنة"، لذا فهناك صعوبة ما في اختزال قصته؛ فالقصة ذاتها لها واجه أخر: كامل (وائل رمضان) طبيب سوري، يعود من مهجره الأوروبي بعد سنوات طويلة من الغربة انتهت بإصابته بمرض عضال، فقرر العودة إلى بلدته الصغيرة ليعيش أيامه الأخيرة ثم يموت فيها، قرار عسير يجمع بين الحياة والموت، يشبه حال هذه البلدة المفجوعة ويشبه بيته المغلق على الأوجاع وعلى غرباء سكنوا فيه بعد أن تهدم بيتهم، يشتبك مصيره بمصائرهم وتتداخل كل أطراف الحكاية المعقدة، لتسجل ما يماثل التوثيق للحظة السورية على كل أصعدتها وانعكساتها النفسية والاجتماعية.
ثلاث شخصيات لم تنطق في الفيلم تقريباً، لكنها خفقة قلب هذا الفيلم؛ من حيث ارتباطها العميق بالحكاية والحدث: الأولى شخصية الطبيب كامل الذي نفهم لاحقاً من خلال الأحداث أن معاناته أكبر من مرضه، نفهمها من خلال رسائله التي نستمع إليها منذ بداية الفيلم وندرك أنها مكاشفة أكثر رسائل غرامية إلى حبيبته، من نبرة الحبيبة المفعمة بالحزن ومن صوته هو المتدفق بالكلام، وإشاراته الدلالية لروحه وطريقة تفكيره كرقيق، متألم، والقريب بدرجة كافية في التداعي الحر لرسائله التي تسرد حياته بشكل واضح، نتعرف في سياق الفيلم كذلك على حبيبته التي هجرها وسافر، فنجدها غريبة في حاضر ليس لها، مع زوج مريض هو "محسن" الشخصية الثانية الصامتة، ظاهرياُ إنه صامت؛ أما داخلياً فهناك فورة غضب ووجع كبير من الوضع العام الذي تسبب في إصابته وقعوده، ومن الوضع الخاص مع زوجته موفورة الأنوثة التي لا يستطيع الاقتراب منها، نلمحه في مستهل ظهوره ينظر نظرة إدانة إلى زوجته، ثم نتماهى معه وهو يؤدي بمهارة فيما بعد المدرك، المالك للوعي، فتتغير نظراته وتبدو معبرة عن شخص يدرك كل شيء رغم جسده المريض، والجسد المريض عند أيمن زيدان تيمة استخدمها في فيلمه السابق "أمينة"، وهنا يعاود استخدامها كنوع من التعبير عن جسد سوريا المريضة.
الشخصية الثالثة فهي للطفل "نور" (ديفيد مهاد الراعي) ابن العائلة التي سكنت بيت الطبيب، نموذج لجيل جديد ولد وعاش الدمار الذي فرضته عليه الحرب، اسمه له دلالة في هذه العتمة، طفل هو ابن الحرب التي سرقت طفولته ومنحته نضجاً ثقيلاً أكبر من عمره، يبدو مرئياً على وجهه المتأمل؛ خصوصاً في مشهد النهاية، حين وضع يده على رأسه كأنه يحمل هموم سوريا كلها، بينما كان يتأمل موت الطبيب أمام عينيه، وينفصل عن مشهد الصدمة في الخارج بالعودة المفاجئة لأبيه جندي الجيش بساق واحدة وابتسامة كبيرة، انكمشت وضاعت بزواج امرأته من شقيقه الأصغر بموافقة الأب بعد أن وصلته أخبار باستشهاد ابنه الأكبر، الأب يقف في نافذة مذهولاً وهو الذي يحاول أن يرمم منزله ويرأب كل صدع في حياته، في النافذة الأخرى تقف الزوجة خلف الابن الصغير، الحائر بين عائلته ووطنه.
هذه الشخصيات هي تعبير عن صمود الشخصية السورية ومحاولتها المقاومة رغم الغيوم الداكنة التي تترسخ في مشاهد الفيلم، لكنها ليست وحدها؛ فالطبيعة البشرية في كل مجتمع تحمل أطيافاً أخرى، كهذا المحتال الذي يحاول أن يستفيد من ظروف الحرب، ويتسلل في حياة شقيقة محسن حتى تسرق أموال شقيقها وتهرب معه، أما شخصية الرجل المختل عقلياً، يبدو أن أيمن زيدان قدمه متأثراً بهذا النموذج الموجود في الأدب والمسرح العالمي بتباينات مختلفة، لكنه هنا له خصوصية فارقة؛ فاستحضاره له دلالة رمزية في فيلم يدين الوضع كله، بدا هذا المختل يمتلك حكمة المحبط في أحلامه بالتغيير، والمواجه للدمار والخيانة، والمتيقن من القادم الأفضل، يقول للقتلة المتواريين، غير المرئيين: "الشمس لازم تطلع غصب عنكن/ يا فيران.. إنتصرنا إنتصرنا".
الزمن يبدو في ظل كل هذا اللون الرمادي، متوقفاً كما الساعة التي كان يصلحها الأب، لكن الساعة تعود للحركة وكذلك الحياة ترجع لسرديتها بتمهل، كما دقات البيانو التي تحاكي دقات الساعة، في البداية كانت الرسائل بصوت الحبيبة، ولاحقاً بصوت الحبيب، ثم تُلقى في النهاية وتطير، ربما لتنهي قصة قديمة وتفسح مجالاً لقصة جديدة، "وكله بيتعوض" كما جملة المختل عقلياً بجوار السيارة الخربة، جملة شفافة تختزل المضمون الدرامي لسيناريو مشبع بالأسى والغضب والتمزق النفسي، ويطرح أسئلة متعلقة بالحرب وتحولاتها، الوحشة، العزلة، بهذا المعنى جاء أداء الممثلين معبراً عن الانكسار والأمل الزائغ على حدود أمس انتهى وحاضر ملتبس ومستقبل مشوش، كما جاءت موسيقى الفيلم لتمنح إحساساً قوياً باكتمال العمل، وبالولوج في المكان وتضاريسه، دقات البيانو تتحرك بنعومة ورومانسية، والكمانجة تشد أوتار الوجع، فيشتغل الخيال مع الأحداث وتشع في العتمة المحيطة ومضات نور، تعكس أجواء الفيلم وانفعالات شخصياته، حسبما استشفها المؤلف الموسيقي سمير كويفاتي وصاغها برؤية تفصيلية دقيقة تهتم بالحدث والمكان، وبأسلوب متناهي في الشاعرية التي تشبه شاعرية موضوع الفيلم وعنوانه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة