تحقيق "براءة القيصر"، الذى نشره اليوم السابع وكتبه الزميل وائل السمرى، فضلاً عن كونه أعاد الحق لأصحابه، فإنه للحق أعاد الاعتبار مرة أخرى للمصريين المقيمين في الخارج.
التحقيق الذى نحن بصدده اليوم، اعتمد على وثائق ومكاتبات حكومية رسمية، كانت في طى النسيان، إلى أن استطاع زميلى وائل السمرى أن يعيدها للحياة مرة أخرى، للتأكيد على أن صاحب الفضل الأول فى منح الأديب العالمى نجيب محفوظ جائزة نوبل هو البروفسير المصرى "عطية عامر" الذى ناضل لما يقرب من عشر سنوات لكى يحصل على نوبل، وهو الأمر الذى أثبتته الوثائق بعدما كثر الجدل طوال ما يقرب من 32 عاماً حول من رشح نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل.
و"عطية عامر"، وفق ما وثقه السمرى، هو دكتور مصرى مولود فى 13 مارس 1922 ورحل عن عالمنا بحسب تأكيد الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق قبل مايو 2012، وهو العام الذى كتب فيه "عصفور" مقالا عذبا فى مجلة العربى الكويتية يذكر فيها فضل الدكتور عطية عامر عليه، ويشير إلى إرثه الإنسانى والمعرفى والوطنى، وبحسب المقال فإن عامر كان يتمتع بروح وطنية عالية وبشخصية إنسانية راقية، كما كان يتمتع بصفة النبل والكرم فى آن، وذكر عصفور فى مقاله إنه "أى عطية عامر" واحد من الرجال القلائل الذين يحبهم ويحترمهم فى آن، وقد سمع عنه للمرة الأولى سنة 1978 حيث قالت له أستاذته سهير القلماوى، أنها كانت فى زيارة رئيس جامعة القاهرة الذى رجاها أن تقبل انضمام عطية عامر أستاذًا للأدب المقارن فى مصر، كما يذكر أن عامر درس فى السوربون مادة الأدب المقارن فى الخمسينيات، وأنه حينما أنهى دراسته عاد إلى القاهرة هو وزوجته السويدية لكنه خشى على حياته حينما شعر بعداء دولة يوليو للشيوعيين، حيث عرف عامر عن طريق قريب له فى جهاز أمن الدولة أن عبد الناصر أمر بالقبض على التجمعات الشيوعية فى مصر، وأن اسمه موجود فى قوائم المطلوبين للقبض عليهم، وأخبر عطية عامر زوجه بهذا الأمر فساعدته على الهروب إلى السويد سنة 1959، واتفقت مع سفير السويد على أن يحصل زوجها على جواز سفر سويدى، يجعل من عطية عامر تاجر أخشاب سويدى الجنسية، وخرج عطية عامر وزوجه من القاهرة ليلاً إلى الإسكندرية، وركبا منها باخرة تقودهما إلى فرنسا، كى يرتحلا من فرنسا إلى السويد، وبعد أن أعلن السادات أن حق العودة إلى مصر مفتوح أمام كل الذين اضطروا إلى تركها كرهًا خلال العهد الناصرى وأعيدت الجنسية المصرية للذين أسقط النظام الناصرى الجنسية عنهم، ومنهم عطية عامر الذى وجد نفسه مرحبًا به للعودة إلى جامعة القاهرة، وبالفعل عاد الرجل، لكن أساتذة كلية دار العلوم (التى هو أصلا منتسب إلى أعضاء هيئة التدريس بها) رفضوا عودته بحجة أن لديهم من يشغل كرسى الأدب المقارن بالفعل، ولما لم يكن هناك من يشغل هذا المنصب فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، تعين فيه لفترة وجيزة.
هذا جزء قليل مما نعرفه عن شخصية الدكتور "عطية عامر" الذى أعتبره نموذج حى وحاضر أمامنا لقوة مصر الناعمة.. نعم قوة مصر الناعمة الممثلة في أبناءها المقيمين في الخارج، ممن يحملون مصر بداخلهم أينما ذهبوا، ويدافعون عنها في كل وقت وحين، فهم سفراء لمصر أينما تواجدوا.
أقول أن الزميل وائل السمرى نجح في تسليط الضوء على دور الدكتور عطية عامر الذى حاول البعض إخفاءه لأسباب لا نعلمها حتى الآن، لكن النجاح الأكبر من وجهة نظرى أن هذا التحقيق سلط الضوء على واحدة من قوى مصر الناعمة، الممثلة في أبنائها المقيمين في الخارج، فكم تعرض هؤلاء لاتهامات باطلة وسهام مارقة استهدفت الخوض في وطنيتهم، رغم أن كثير منهم له أدوار كثيرة غير معلنة، كلها تصب في خانة واحدة أسمها "حب مصر".
"عطية عامر" واحد من ضمن ملايين المصريين الذين تركوا مصر بجسدهم فقط، لكن قلبهم وعقلهم مرتبط بمصر، لذلك لم يترك فرصة سانحة أمامه الا وحاول ان يفيد بها واحد من أبناء وطنه وهو الدكتور نجيب محفوظ، رغم عدكم سابق المعرفة بينهما، لكن الرابط الوحيد هو مصر وأدب محفوظ.
"عطية عامر" واحد من ملايين المصريين الذين اختاروا العيش في الخارج لأسباب مختلفة، لكنهم أبداً لم يفكوا ارتباطهم بمصر، بل عطائهم مستمر، وأمامنا الكثير من الأمثلة التي يصعب حصرها في كتاب وليس مقال.
لذلك شكراً للزميل وائل السمرى على هذا التحقيق الذى رد الاعتبار للدكتور عطية عامر، ولكل مصري اضطرته الظروف أن يترك البلد للعمل في الخارج، لكنه لازال متواصل معها بقلبه وعقله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة