عباس شومان

اختلاف الفتوى باختلاف حال المستفتين

السبت، 19 ديسمبر 2020 10:14 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الفتوى يراد بها إبلاغ المستفتى بما يظهر للمفتى من حكم فى المسألة بضوابط محددة فى الواقعة التى يسأل عن حكمها، وهى مهمة ثقيلة لا يقوى عليها إلا من يمتلكون القدرة على معرفة حكم المسألة بالرجوع إلى أقوال المجتهدين السابقين، فإن كانوا اتفقوا على رأى فى المسألة أفتى به، وإن كانوا قد اختلفوا فى المسألة فتعددت أقوالهم، اختار الرأى الراجح المناسب لحال السائل فأفتاه به، فإن لم يجد للسابقين قولًا فيها اجتهد فى حكمها فى ضوء مقاصد الشريعة والقواعد الفقهية العامة.
 
وقد تجد اختلافًا فى الفتوى المتعلقة بموضوع واحد بين المفتين فى بلد واحد وزمن واحد، أو بين بلدان وأزمنة مختلفة، فقد يسأل مفتيا فى بلد فيفتيه برأى، ويسأل مفتيا فى موضع آخر فى نفس المسألة فيفتيه برأى غيره، وربما يصدر عن المفتى الواحد فتاوى مختلفة فى مسألة واحدة حدثت لأكثر من شخص، وقد يتعجل البعض فيفهم أن هذا من التضارب فى الفتاوى أو التراجع من المفتى إذا كان الاختلاف صادرًا عن نفس المفتى، مع أن الأمر ليس كذلك، فمن المعلوم أن الفتوى تختلف باختلاف أحوال السائلين وأعرافهم وأزمنتهم، ولذا فإن اختلاف الفتوى إن كان فى زمان واحد بين أكثر من مفتٍ فإنَّ ذلك يرجع إلى اختلاف مناهجهم فى الترجيح، حيث يأخذ بعضهم برأى فقيه من السلف كالإمام أبى حنيفة، بينما يرجح آخر رأى الإمام مالك.
 
فعلى سبيل المثال: لو أن سائلًا سأل مالكيا عن نجاسة الكلب فسيفتيه بأن الكلب طاهر، ولذا لا ينجس ما احتك به حتى لو كان بلسانه، حيث يقول المالكية بطهارة الكلب كالغنم، فهم يرون أن غسل الإناء الوارد فى الحديث النبوى: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» غسل صحى لإزالة الميكروبات التى لا يخلو عنها لعاب الكلب، ولا علاقة لهذا الغسل بالتطهير، بدليل أن تطهير النجاسات ليس فيها أمر بغسل محدد بعدد معين ولا اشتراط لاستخدام التراب فى غير الإناء الذى ولغ فيه الكلب، بل يكون التطهير بالغسل الكافى لإزالة النجاسة ولو كانت مرة واحدة، وهذا الذى قالوه أثبته العلم الحديث بتجارب مخبرية، فلم تفلح المطهرات والمنظفات المختلفة فى إزالة لعاب الكلب مهما قويت المنظفات، ومهما بلغت مرات الغسل من دون استخدام للتراب الذى تختفى تلك الميكروبات فور استخدامه، ولا يعنى قول المالكية بطهارة الكلب صحة ما يردده بعض الناس بأن المالكية يجيزون أكله، فالطهارة ليست بالضرورة ملازمة لحل الأكل فالسم طاهر وشربه حرام.
 
بينما لو سأل السائل فى نفس المسألة فقيها حنفيا أو شافعيا فسيفتيه بأن لعاب الكلب هو النجس فيلزم تطهير ما أصابه بلسانه، ولكن بقية جسده طاهر لا ينجس ما احتك به، حيث فسروا الحديث السابق بأنه يدل على نجاسة ما نص عليه وهو اللعاب، ويبقى بقية الجسد على أصل الطهارة كسائر الحيوانات ما عدا الخنزير.
 
ولو كان المفتى حنبليا فسيفتى السائل بأن الكلب نجس كله كالخنزير، فهم يرون أن الحديث يدل على نجاسة جزء من الكلب فيكون باقيه نجسا، وتأكد هذا عندهم بتحريم بيع الكلب فى السنّة، ومن قبلها تشبيه المنسلخ من آيات الله بالكلب فى كتاب الله «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ*َلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، فاختلاف الفتوى هنا يرجع إلى تعدد الأقوال الواردة عن المجتهدين السابقين فى هذه المسألة واختلاف المعاصرين فى الأخذ بأى منها، ولا مشكلة فى ذلك، فكل هذه الأقوال صحيحة ومعتبرة ولا حرج على من أخذ برأى منها، فكل مجتهد مصيب فيما توصل إليه بعد اجتهاده ما دام يملك القدرة على الاجتهاد، لقوله، صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ»، فقد دل هذا كما فهم العلماء سلفًا وخلفًا أن جميع الآراء الاجتهادية الصادرة عن المجتهدين يجوز الأخذ بها وكلها صحيحة.
 
أما إذا كان اختلاف الفتوى صادرًا عن فقهاء بلدان مختلفة فى مسألة واحدة، فإن ذلك يرجع إما إلى السبب السابق وهو اختلاف المفتين فى مذاهبهم، وإما لاختلاف الأعراف بين البلدان التى وردت فيها المسألة، فمن المعلوم أن فتاوى الإمام الشافعى اختلفت فى كثير من المسائل التى أفتى فيها فى العراق حين نظر فيها بعد انتقاله إلى مصر، لاختلاف أعراف المصريين عن أعراف العراقيين، فقد رأى وهو فى العراق مثلًا أن سارق التبن أو الخشب وإن كان ارتكب حراما إلا أنه يعذر «يؤدب» ولا تقطع يده، لأنهما كانا يعدان من الأشياء التافهة عند أهل العراق، بينما رأى أنهما من الأشياء ذات القيمة عند المصريين، فقال: من سرق تبنًا أو خشبًا يبلغ النصاب قطعت يده، فاجتمع عليه التحريم وقطع اليد، بينما العراقى يرتكب محرما، ولا تقطع فيه يده، وهذه المسألة الآن لا يختلف الحكم فيها بين أهل العراق وأهل مصر، لتغير عرف أهل العراق عن زمن الإمام الشافعى، فقد أصبحت هذه الأشياء عندهم من ذوات القيم كأهل مصر، فتكون الفتوى فى السارق لهما هناك «هى هى» للسارق لهما هنا.
 
أما إذا كان اختلاف الفتوى فى نفس المسألة صادرًا عن فقيه واحد فى نفس الزمان والمكان، ولكن بين أكثر من سائل، فإن سبب ذلك يرجع إلى اختلاف حال السائلين، فقد تجد مفتيًا واحدًا يفتى فى مسألة الزوج الذى طلق زوجته وهى حائض أو فى طهر عاشرها فيه الطلقة الثالثة بالبينونة ووجوب التفريق بينهما فورًا، بينما يفتى سائلًا آخر فى نفس المسألة بالبقاء مع زوجته بعد إسقاط طلقة من الطلقات، والسبب هنا أن السائل الأول بمناقشته من قبل المفتى علم أن التفريق بينهما أفضل لهما كما لو كانا قد تزوجا قبل أشهر قليلة، ومع ذلك أوقع الثلاث طلقات خلالها، وليس بينهما أطفال، وكلاهما يبغض الآخر، والظاهر من حالهما تعذر استمرار حياتهما الزوجيَّة، وهنا يكون من المناسب لهما الأخذ برأى جمهور الفقهاء الذين يعتدون بالطلاق البدعى فيوقعونه كالطلاق السنى، ويرتبون عليه نفس الآثار، وإن كان فاعله يأثم، بينما السائل الآخر تبين أنه نادم هو وزوجته ولديهما أطفال قد يضيعون إن هما افترقا ويرغبان فى الاستمرار فى حياتهما الزوجية ورعاية أولادهما، وهنا يأخذ المفتى برأى بعض الفقهاء الذين لم يعتدوا بالطلاق البدعى.
 
ولذا فإن استعجال البعض فى الحكم على الفتاوى الصادرة عن المفتين واعتبارها متناقضة إذا هى اختلفت لا يكون دقيقًا، ويرجع ذلك إلى عدم إدراكهم لأسباب اختلاف الفتوى، وفى كل الأحوال فإن بُعد غير المتخصصين فى الفتوى عن الإفتاء أو الحكم على فتاوى المفتين أمان وسلامة لهم فى الدنيا والآخرة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة