ذكرت دراسة للمرصد المصرى التابع للمركز المصرى للفكر والدراسات، أن الدولة المصرية راعت قضية حقوق الإنسان كقضية أخلاقية تحتفظ بحدودها السياسية، ولكن غير المُسيسة. وكان ذلك وفق محددات ثابتة، هي:
مراعاة قيم وثوابت الهوية الوطنية المصرية.
تبنى مبدأ إدماج حقوق الإنسان فى المجالات الإنمائية.
اتباع منهج “التدرج” فى تنفيذ حقوق الإنسان؛ وفقا للإمكانات المصرية، والأولويات التنموية.
مراعاة مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.
عدم تغليب مجموعة من الحقوق على حساب الأخرى، أى اعتماد الدولة للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
وتطابقت هذه المحددات المصرية مع وثيقتين أساسيتين تعدان الركائز القانونية للميثاق العالمى لحقوق الإنسان، وهما:
الشِرعة الدولية لحقوق الإنسان International Bill of Rights: والتى دخلت حيز التنفيذ فى 1976، وتتضمن احترام الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كذلك تقرير حماية خاصة للفئات الإنسانية الضعيفة كالطفل والمرأة والعجائز.
وثيقة مكتب السياسات الإنمائية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى لعام 2012: والتى تقضى بضرورة تطبيق مفهوم “إدماج حقوق الإنسان فى السياسات الإنمائية”. أى أن عدم التركيز على الحقوق المدنية والسياسية فقط دون النظر إلى تمكين المواطن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
وعطفا على ما سبق، فاستهلت وثيقة المكتب الإنمائى بالقول أن “الصلة بين عمل الأمم المتحدة فى المسائل الإنمائية/الإنسانية وعملها فى مجال حقوق الإنسان صلة ضعيفة؛ لأسباب سياسية أساسا: فقد أصبحت حقوق الإنسان تكتسى طابعا سياسيا مفرطا؛ إذ جعل بعض الدول تؤكد أولوية الحقوق المدنية والسياسية، فى حين أكدت دول أخرى على أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.”
يمكن فهم هذا الاقتباس وإسقاطه على الواقع من خلال استدعاء المواقف التى يتم فيها تطبيق العقوبات “الاقتصادية” على الدول النامية من أجل تعزيز مجال حقوق الإنسان، وهو ما يمكن وصفه بمنح أولوية أولى للحقوق السياسية على حساب مجموع الحقوق الأخرى وهو ما وصفه المكتب الإنمائى بـ “تسييس مجال حقوق الإنسان”.
أولا: خطوات الإدماج الإنمائى المصرى لحقوق الإنسان
سعت مصر فى السنوات الأخيرة تطبيق خطة استراتيجية مالية اعتمدت مصادرها على موارد متعددة منها القروض، والضرائب؛ من أجل تمويل المشروعات الوطنية التى تستهدف رفع مؤشر التنمية الإنسانية للمواطن المصري. ربما لا يسع المجال للحديث عن كافتها لذلك يمكن عرض أبرز هذه المشروعات كالتالي:
القضاء على العشوائيات: تحت مبدأ “سكن كريم” للمصريين. فقد عانى الشعب المصرى من ظاهرة انتشار العشوائيات فى المدن والأرياف.
مبادرة 100 مليون صحة: أدركت الدولة المصرية أن أحد مقدراتها القومية وهو المقدر الديموغرافى (السكان) يعانى من انتشار فيروس التهاب الكبد الوبائى (C)، وعدد من الأمراض المزمنة مثل الضغط وداء السكرى، مما حدا بالدولة لتدشين مبادرة رئاسية لعلاج 100 مليون مصرى أى مجموع الشعب، وهو ما قاد مصر لأن تقفز إلى مصاف الدول التى نجحت فى القضاء على فيروس سي.
خفض معدلات البطالة: وهو المؤشر الذى نجحت فيه مصر حتى فى ظل أزمة كورونا المستجد فى الحفاظ على معدلات بطالة متدنية بشكل ملحوظ.
تمكين الفئات النوعية: أدرجت الاستراتيجية الوطنية “استراتيجية مصر 2030” الفئات النوعية أبرزها الشباب والمرأة ضمن محور الاندماج والعدالة (المحور الرابع)؛ من أجل تمكين تلك الفئات على المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وهو ما يتطابق مع ما ذكرته المواثيق الدولة، خاصة فيما يتعلق بالمرأة.
فقد أكد ريتشارد ديكتس، المنسق المقيم للأمم المتحدة فى مصر أن مصر تلعب دورًا رائدًا فى تغيير الحوار العالمى حول العنف ضد المرأة. بالإضافة إلى القرارات والخطط الوطنية التى تستهدف القضاء على ظاهرة العنف ضد المرأة فى مصر. كما يجدر بالذكر أن مجلس النواب الجديد (2021) سيشهد أكبر نسبة تمكين سياسى للمرأة بنسبة 25%.
الأقليات غير مصرية: فعلى مستوى اللاجئين، ترفض مصر توطين اللاجئين فى مصر فى مجتمعات عزلة مثل المخيمات، بل حرصت على دمجهم ضمن الحياة العامة بكافة سبلها المعيشية. علاوة على أن مصر كفلت التمكين السياسى للجاليات والأقليات غير المصرية فى مصر لإقامة نقابات أو كيانات سياسية تعبر عنهم، وذلك فى قانون الجمعيات الأهلية لعام 2019.
يمكن القول فى هذا السياق، أن الدولة المصرية أولت اهتماما خاصا بالجوانب التنموية التى ترفع من الكفاءة المعيشية للمواطن المصرى مع مراعاة التمكين السياسى وليس مجرد كفالة حرية التعبير.
ثانيا: الظواهر السلبية للمجال الحقوقى فى مصر
اعترفت مصر بسوء العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني؛ وأرجعت الأمر إلى المنظمات الحقوقية التى تمارس نشاطها “السياسي” فى مصر. وسارت الرواية المصرية بشأن هذه العلاقة على مرتكزين اثنين:
التسييس: وهى الظاهرة التى أشارت إليها المكاتب التابعة للأمم المتحدة، إذ بات مجال حقوق الإنسان يمثل أداة ضغط سياسية للدول الخارجية من أجل إجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات سياسية.
ففى الوقت الذى أطلقت جمعيات حقوقية انتقاداتها لتخطيط وسير العملية الانتخابية البرلمانية فى مصر، أصدرت البعثة الدولية المشتركة لمتابعة انتخابات مجلس النواب «مصر 2020» تقريرها حول مرحلة الترشح، ويأتى ذلك فى إطار أعمال غُرفة عمليات البعثة، والتى تتألف من 7 منظمات من أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، إلى جانب الشريك المحلى الرئيسى والمتمثل فى مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان. وأشار المتحدث باسم البعثة الدولية إلى وجود قدر كبير من الالتزام على المستوى التشريعى بالمعايير الدولية لحرية ونزاهة الانتخابات خلال هذه المرحلة، إضافة إلى اتباع أُسس الممارسة الديمقراطية. من زاوية أخرى، أثبتت التقارير عمل بعض عناصر تنظيم الاخوان فى منظمات حقوقية دولية هم المسؤولون عن كتابة تقارير حقوق الإنسان عن مصر.
الالتفاف على القانون: وهو ما يظهر فى سعى كثير من الراغبين فى العمل بالنشاط الحقوقى بفتح مكاتب محاماة فى مصر ثم تحويلها إلى منظمات حقوقية، وهو عمل مخالف قانونيًا حسب قانون أغسطس 2019 للجمعيات الأهلية، الذى يقضى بالتزام الشفافية في:
فى خطوات إقامة المنظمة.
نشر التقارير والدراسات، وعمل أرشيف لها.
مصادر التمويل؛ من أجل مكافحة سبل غسيل الأموال.
ثالثا: قراءة فى بيان البرلمان الأوروبى الصادر فى 18 ديسمبر 2020
من خلال قراءة تقرير البرلمان الأوروبى الصادر فى 18 ديسمبر 2020 ضد وضع حقوق الإنسان فى مصر، يمكن استخلاص مجموعة من الإضاءات، فيما يلي:
اعتمد تقرير البرلمان الأوروبى على عدة مواثيق دولية، كان من بينها الميثاق الأوروبى لحقوق الإنسان. وتعتبر الدول الأوروبية هذا الميثاق نظاما عاما أوروبيا خالصا، وبالتالى يمكن لأى دولة أوروبية أن تتهم دولة أوروبية أخرى بانتهاك حقوق الإنسان حتى ولو لم يكن للدولة المُتَهمة موقف محدد استدعى الاتهام. يستند هذا الحق الجزافى إلى مبدأ أساسى يقول بأن إثارة مثل هذه المواقف يستلزم معها إثارة الأجهزة الرقابية الأوروبية وبالتالى تنشط الحياة الديموقراطية والحقوقية.
كما اعتمد البرلمان الأوروبى فى تقريره على الميثاق الأفريقى لحقوق الإنسان، وبالنظر إلى ديباجته يتبين أن الميثاق حرص على ضرورة اعتبار الحقوق المدنية والسياسية مرتبطة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أى يلتزم الميثاق الافريقى بمبدأ “الإدماج الإنمائى لحقوق الإنسان”.
وهو ما لم يلتزم به البرلمان الأوروبى عند تقديمه للحقوق المدنية والسياسية كأولوية أولى مقدمة على التمكين الاقتصادى والاجتماعي. ظهر ذلك فى توصيته بتطبيق عقوبات اقتصادية على مصر قد تضر بالخطط التنموية التى شرعت بها. ولذلك يمكن القول إنه إخلال بمبدأ الإدماج وبالتالى “تسييس لمجال حقوق الإنسان”.
يخرق تقرير البرلمان الأوروبى أحد أهم محددات مصر بشأن مجال حقوق الإنسان وهو الحفاظ على ثوابت وقيم الهوية الوطنية، عند إشارته بأن على أوروبا أن تقدم الدعم السياسى لحقوق المثليين فى مصر.
اتهم البرلمان الأوروبى مصر بالإخلال بحقوق المرأة، وهو ما لا يعكس واقع التطورات فى ملف تمكين المرأة المصرية وفق استراتيجية مصر 2030، واستراتيجية تمكين المرأة المصرية 2030. علاوة على أن ريتشارد ديكتس، المنسق المقيم للأمم المتحدة فى مصر أكد على أن مصر تلعب دورًا رائدًا فى تغيير الحوار العالمى حول العنف ضد المرأة. إذ أقرت مصر قانون إخفاء هوية المجنى عليها فى قضايا التحرش من أجل الحفاظ على كرامتها.
يوصى البرلمان الأوروبى بإلغاء قانون مكافحة الإرهاب، وهو ما يتنافى مع منطق المفاهيم التقليدية لحدود أمن وأمان المواطن فى بلده. لا زالت مصر تعانى كما تعانى بعض الدول الأوروبية كذلك من أنشطة الإسلام السياسى الإرهابية وأثرها التدميرى على النسيج المجتمعى والشعور بالأمن. لذلك ليس من المنطقى إلغاء المظلة القانونية التى تعتمد عليها مصر فى حفظ وضبط الاستقرار. كذلك ينصرف الحديث على قانون الجمعيات الأهلية الذى يوصى البرلمان الأوروبى بإلغائه، فى حين:
يكفل القانون إلغاء عقوبة الحبس لأعضاء الجمعيات الأهلية فى حال ارتكاب المخالفات، والاكتفاء بالغرامات المالية.
يكفل القانون تمكين الأقليات الأجنبية سياسيا فى مصر.
يكفل القانون للجمعيات الأهلية إلزام الدولة بدعمها ماليا من خلال إنشاء صندوق مالي؛ لضمان عدم تعثر بعض الجمعيات ومن ثم غلقها.
الالتزام بالشفافية من الجانبين أى من جانب الدول والجمعية الأهلية، وخاصة فى عمل أرشيف للدراسات التى يتم نشرها.
عدم انخراط الجمعيات الأهلية فى نشاط سياسى يتقاطع مع عمل الأحزاب والنقابات، أو نشاط ديني.
يجدر بالذكر أنه لم تصدر بعد اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات الأهلية، وهو ما يدفعنا بالقول أن المطالبة بإلغاء القانون يبدو أنه استهداف للقانون ذاته، وليس من أجل لفت النظر إلى بعض الممارسات السلطوية. فعلى سبيل المثال راعت الدولة المصرية تعديل قانون الحبس الاحتياطى فى أكتوبر 2020، وهو تدشين أولى مراحل تنفيذ مشروع النظر عن بعد فى أوامر الحبس الاحتياطى، إذ تتيح للقاضى الاتصال مباشرة بالمتهم المحبوس احتياطيًا بحضور محاميه، عبر دائرة تليفزيونية مغلقة ومؤمنة، بما يمكن المتهم من إبداء كل أوجه دفاعه عند النظر فى أمر إخلاء سبيله أو استمرار حبسه، دون الانتقال إلى المحكمة. وهو ما وصفته اللجنة العليا لحقوق الإنسان كونها “تعزيزًا لحقوق المحبوسين احتياطيا”.
فى ذات السياق ولكن من زاوية أخرى، تتيح وزارة الداخلية لمنظمات حقوق الإنسان الدولية (مثل منظمة هاندز أوف كاين الإيطالية) لزيارة السجون والوقوف على الوضع الصحى والغذائى والرياضى للنزلاء. وهو ما يدحض على نحو أو آخر ادعاءات البرلمان الأوروبى التى لا تستند على دلائل أو أرقام بإصابة النزلاء فى السجون المصرية بفيروس كوفيد-19.
جاء قرار المجلس الاقتصادى والاجتماعى التابع للأمم المتحدة فى عام 1988، والذى أجاز للمجلس أو الهيئات المناقشة لوضع حقوق الإنسان الاستماع لتقارير منظمات غير حكومية وملاحظتها حول الوضع المعنى بالمناقشة. وهو ما يدفع بالقول أن المنظمات الدولية التى حضرت إلى مصر لدراسة الوضع الحقوقى فى السجون، أو لقياس نزاهة الانتخابات وخرجت بملاحظات إيجابية لم يتم النظر إلى ملاحظتها، وهو ما يعد أحد مظاهر التسييس كذلك.
ختاما، يمكن القول أن مصر لا تمنح أولوية مطلقة لمجموعة من الحقوق على حساب مجموعة أخرى، تحت مبدأ التدرج فى تقرير الحقوق حسب الاحتياجات والإمكانات الذى يتفق مع مبدأ إدماج حقوق الإنسان مع المقتضيات الإنمائية.