فى مصر ظاهرة متفردة، دعنا نسميها "الاستثمار غير المخطط فى العقارات"، وقد فاجأني أحد الأصدقاء بأن ابن عمه كان فى أحد بلاد الخليج منذ سنوات طويلة، ثم بدت لديه رغبة بالاستقرار في مصر، وقرر تحويل مدخراته بالكامل و"تحويشة العمر" إلى عقارات، ووقع اختياره على حى مدينة نصر، وقد كانت حصيلة المبالغ، التى ادخرها على مدار 30 عامٍ من العمل مبلغ 20 مليون جنيه، اشترى بهم 15 شقة فى شوارع مميزة، قبل جائحة كورونا بثلاثة أشهر، وكان يستهدف المتاجرة، و" تقليب" الأموال كما يظن البعض، تحت دافع "الحداقة" والفهلوة والمكسب السريع بلغة المصريين، فكانت النتيجة أنه يعرض هذه الوحدات للبيع الآن، بخسائر تصل إلى 5 ملايين جنيه، والمفاجأة أنه لا يجد زبائن، وغالبا لن يتمكن من تجاوز هذا المأزق قبل عامين أو ثلاثة، بخسائر 30٪ على الأقل، أما إذا خطط لاستعادة أمواله أو تحقيق مكسب، فربما يحتاج إلى 10 سنوات مقبلة، كانت أمواله فيها ستصل للضعف لو وظفها فى شهادات ادخارية طويلة الأجل.
لا أظن أن تجربة الاستثمار غير المخطط فى العقارات موجودة بأى بلد كما هو الحال فى مصر، وقد يكون مقبولا سماع استثمار أحد أثرياء العالم أمواله فى شراء قصور أو عقارات هنا أو هناك، إلا أن الأمر بات مختلفاً بعدما تحول هدف كل مصرى يعيش فى الخارج أن يكرس أمواله ومدخراته لشراء العقارات، وهذا يعود بنا إلى معادلة الأرقام من جديد، فمن هنا جاءت 3.5 مليون وحدة سكنية مغلقة كرقم إجمالى لمن هم خارج مصر، ومن يمتلكون أكثر من مسكن، وفقا لأرقام جهاز الإحصاء، فلو أن هذه الأموال توجه بالصورة الصحيحة للاستثمار فى مشروعات صغيرة أو متوسطة أو أى أنشطة إنتاجية، ستعود قطعاً بتأثير أفضل على معدلات النمو والاستثمار، وستدفع مؤشرات الاقتصاد نحو المزيد من القوة والمرونة، إلا أن ما يحدث لا يحتاج فقط إلى وعى اقتصادى، بل إلى دراسة اجتماعية متطورة تفسر أسباب المبالغة فى حيازة العقارات، ومدى ارتباطها بفكرة السفر للخارج.
أسعار العقارات فى مصر قضية تشغل بال كل مواطن، فالموضوع لا تحكمه معايير واضحة، بل يخضع للقدرة على التسويق والدعاية للمميزات المتعلقة بالتراخيص والعقود، ومستوى التشطيب، وأسعار المنطقة، وسنة البناء، والإطلالة سواء على الشوارع الرئيسية أو الفرعية، كما أن كل شركة تضع أسعاراً تخصها، دون مراعاة لقواعد العرض والطلب أو حجم المنافسة مع الشركات الأخرى، فقد تجد شركة تقدم 8 آلاف جنيه سعرا للمتر، وبجوارها أخرى تقدم 6 آلاف فقط، دون أن تكون هناك اختلافات جوهرية في المنتج النهائي للشركتين، وهذا يجعل مراجعة أسعار العقارات ومتابعتها أمر مرهق جداً، ويدفع المستهلك إلى التشكك والارتياب من الشركات العاملة في مجال العقارات وقطاع الإسكان بشكل عام.
وحتى أتعرف بصورة أفضل على السوق، لجأت إلى شركة متخصصة فى بيع وتسويق العقارات حتى أستطيع من خلالها التعرف على الخريطة الكاملة للأسعار فى القاهرة الكبرى، والمدن الجديدة، ووصلت من خلالها إلى تقييمات ومتوسطات أسعار للوحدات السكنية بمختلف أنواعها، وقد جاءت منطقة الزمالك الأعلى سعراً بمتوسط 23 ألف جنيه للمتر، يليها جاردن سيتى بمتوسط 18 ألف جنيه للمتر، ثم الدقى والمهندسين من 12 إلى 13 ألف جنيه للمتر، والمنيل 12 ألف جنيه للمتر، والعاصمة الإدارية الجديدة 11 ألف جنيه للمتر، والعجوزة 10 و500 جنيه للمتر، والشيخ زايد 10 آلاف جنيه للمتر، ومصر الجديدة 10 آلاف جنيه للمتر، والمعادى 9 آلاف جنيه للمتر، ثم مدينة نصر 7 و 500 جنيه للمتر.
وفى الشريحة الثانية من أسعار العقارات جاءت 6 أكتوبر بـ 7 آلاف جنيه للمتر كمتوسط، والمقطم بـ 7 آلاف جنيه للمتر، ومدينة الشروق بـ 5 آلاف و500 جنيه للمتر، والعبور بـ 5 آلاف جنيه للمتر، ومنطقة الهرم بـ 4 آلاف جنيه للمتر، وحدائق الأهرام بـ 4 آلاف جنيه للمتر، ومدينة 15 مايو 4 آلاف جنيه للمتر، ومدينة بدر 3 آلاف و 500 جنيه للمتر، وفيصل بـ 2800 جنيه للمتر، وهذه جميعا متوسطات وليست أسعار نهائية تحكمها عدة عوامل كما ذكرنا فى الفقرات السابقة.
الواضح من خريطة الأسعار أن بعض المناطق القديمة والأحياء الراقية مازالت تحتفظ بأسعار مرتفعة مثل الزمالك وجاردن سيتى والدقى والعجوزة ومصر الجديدة، بينما اختلفت المدن الجديدة، فجاءت العاصمة الإدارية الجديدة على رأس الأعلى سعراً، رغم أنها الأحدث فى التأسيس والأبعد فى الموقع من القاهرة، لكنها تحظى بالدعم من الحكومة ويتم الترويج والتسويق لها بصورة تجعلها تتفوق على كل المدن الجديدة، بل ويتم الترويج لها من خلال شركات التطوير العقارى بصورة مكثفة، وقد جاءتني عشرات المكالمات الهاتفية من شركات عقارية تعمل بالعاصمة الجديدة، وبمجرد أن يبدأ مسئول التسويق فى الحديث يقول:" بتدور على حاجة للمستقبل؟!"، فكذلك يتم التأسيس للصورة الذهنية عن هذه المدينة الجديدة، لكن البيان العملى والتجربة الفعلية وخبرة السكن لم تتضح بعد.
العاصمة الإدارية الجديدة مشروع قومى واستراتيجى هام جدا، وأكبر بكثير من فكرة مدينة جديدة أو مجموعة وحدات سكنية أو شركات عقارية، وبمثابة نقلة جديدة نحو مجتمع متطور ومختلف، لكن البعض يعول مستقبل العاصمة الإدارية على فكرة نقل الوزارات إليها، وهنا يظهر السؤال الأهم: هل فعلا نقل المؤسسات الحكومية يدعم فكرة تميز العاصمة الإدارية؟! الإجابة من وجهة نظرى لا.
ولو أنك بحسبة بسيطة كمواطن عادى حاولت حساب المرات التى دخلت فيها مبنى وزارة المالية على سبيل المثال، ستكتشف أن هذا المبنى الضخم الذى تراه من أعلى كوبرى أكتوبر لم تدخله من قبل، وفى الغالب لن تدخله على الإطلاق، وكذلك الحال فى وزارات الداخلية، الخارجية، التموين، التضامن الاجتماعى والبيئة..
المواطن المصري لا يتعامل مع دواوين الوزارات بصورة مباشرة، بل يتجه إلى مكاتبها ومديرياتها، مثل مديرية التعليم، مديرية الصحة، مكتب تموين الدقى، مكتب صحة العجوزة وهكذا، فالوزارات مبان إدارية لا تقدم خدمات للمواطنين، ومن السذاجة أن نطرح فكرة نقل الوزارات باعتبارها أهم خطوة فى مستقبل العاصمة الإدارية، بل يجب التركيز على جودة الحياة والخدمات المتاحة والبيئة الآمنة والمجتمع الحضارى المتكامل، الذى يخدم أكبر شريحة من المواطنين.