ستظل قضية الدولة ومفهومها فى الإسلام أكثر القضايا المعرفية إرباكا فى الفكر الإسلامى على الإطلاق، وستظل أيضا ميدانا للسجال الفكرى الممتد، والذى لا يتوقع الانتهاء منه أو الوصول إلى صيغة توافقية أو حتى قريبة من التوافقية فيه.
وإنما كان الوصول إلى مفهوم متوافق عليه بشأن التصور الإسلامى «الصحيح» لقضية الدولة والحكم أمرا عسيرا للغاية لاعتبارات عديدة بعضها، بل غالبها، يعود إلى الطرح الذى تقدمه العديد من الحركات الإسلاموية، والتى تصر على اعتبار الدولة ركن الفكر الإسلامى وغايته، وتلك المبالغة تسلب مفهوم الإسلام تحرره من التحيز الزمانى والمكانى، ذلك لأنها إما أن تحاول إخضاعه لصورة الدولة الغربية الحديثة بمفرداتها، ما يجعلها بحيزها الزمانى والمكانى وظرفها التاريخى المحدود حاكمة على الإسلام بمفاهيمه غير المحدودة، فيتسبب ذلك فى سلب نظرية الحكم والإدارة الإسلامية شموليتها وسعتها الكبيرة.
وإما أن تتعاطى مع مفهوم الدولة فى إطار ضيِّق للغاية يختزلها فى صورة تاريخية واحدة وبعض الآراء الفقهية المعدودة مع محاولة إجرائها على كل الأزمان فى ظاهرية يصعب تصديقها؛ متجاهلين كم التغيرات الجذرية التى انتابت شكل الدولة عبر العصور التاريخية الإسلامية وفق معطيات الواقع والعوامل الزمانية والاجتماعية.
أضف إلى ذلك استماتة الجماعات المتطرفة بواسطة مُنظِّرِى العنف والدم والإقصاء فى التأصيل لأدلجة مفهوم الدولة واستغراقهم فى وهم المشروع المقدس وطائفة الله المختارة المتمايزة عن سائر البشر الممتلكة للحقيقة المطلقة.
ومن هنا صار مفهوم الدولة فى الإسلام معضلة معرفية تحتاج إلى أمر زائد على المحاولات الفكرية والتوعوية لحل ذلك الإشكال، وفك الاشتباك المتوهَّم بين ما هو دينى وما هو دنيوى فى مفهوم الدولة، وذلك الأمر الزائد لا أفضل من أن يكون نموذجا حقيقيا يمكن من خلاله عرض مفردات الدولة فى صورة حية ومطبَّقة على أرض الواقع.
وهنا يمكن لنا أن نعرض بكامل الثقة للحالة المصرية التى استطاعت أن تعطى نموذجا حقيقيا ملموسا يمكن من خلاله الخروج من حيز التصورات القابلة للمنع والنقض والإيرادات إلى ثبات المصدقات ودلالتها القطعية على الوقوع والتحقق.
لقد قدَّم النموذج المصرى حلا لإشكالية الدولة من حيث التصور الإسلامى بداية من قضية «الحاكمية»، التى ارتكزت فى الذهنية الإسلامية وشكلت مدخلا بعد ذلك لصنوف من الانحراف الفكرى، فقدمت الدولة المصرية على اختلاف دساتيرها الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسى للتشريع، ما قدَّم تكييفا واقعيا لقضية الحاكمية بوصف الدستور حاكما على سائر القوانين، وفى ذات الوقت نصَّت على احترام كل الأديان والشرائع التى تنادى بها كل الدساتير الديمقراطية الحديثة، فحققت توازنا منطقيا وحقيقيا بعيدا عن التأصيلات النظرية لمقتضيات المواطنة، وظهر أثر ذلك على الممارسات الاجتماعية التى عكست ارتياح الجميع إزاء المنظومة التشريعية، وشعورهم بتحقيقها للقدر الكافى من احترام الأديان والشعائر الدينية.
كما أنها قدَّمت نموذجا واقعيا لطريقة اختيار الحاكم، وتحركت فى المساحة الواسعة المرنة التى كفلتها الشريعة الإسلامية، والتى لم تتبنى قالبا نمطيا فى اختيار الحكام، بل تعددت الطرق وتغيرت بشكل كبير تبعا للظرف التاريخى، مراعية لتحقيق المقصود الأسمى من تلك القضية، وهو الوصول إلى حكومة رشيدة تستطيع رعاية مصالح المجتمع وإقامة العدل وإدارة الموارد البشرية والمادية بالشكل الذى يعود على مواطنيها بالنفع الدائم.
لقد استطاع النموذج المصرى تقديم نموذج الدولة المدنية الحديثة، وإثبات أن الصورة الذهنية للدولة الحديثة التى تتعارض مع المبادئ الإسلامية هى محض أوهام، وعلى نفس القدر إثبات أن الدولة المدنية الحديثة ليس من ضروراتها التخلص من الدين واعتباره عبئا يعوق تأسيسها، فقدمت مصر نموذجا للدولة المدنية الحديثة المعتصمة بالقيم الدينية والأخلاقية، والقادرة على تفعيل جميع المبادئ التى أفرزتها المدنية الحديثة من عدل ومساواة وحرية وعدالة اجتماعية، وأظهرت الدولة إرادة حقيقية وعزما أكيدا على تحقيق تلك المبادئ على الوجه الأمثل، ويكفى فى ذلك تمسكها الكبير بمقتضيات تلك المبادئ فى أحلك الظروف التى شهدتها البلاد، وفى أوج الهجمات الإرهابية ومحاولات ضرب الاستقرار ومحاولات زعزعة النظام الأمنى وجر البلاد إلى حالة من الانفلات والفوضى، فأظهرت الدولة تجاه ذلك قدرا كبيرا من ضبط النفس والتعامل بطريقة حضارية وحازمة فى نفس الوقت، لتثبت أن تحقيق المعادلة الصعبة بين ضبط الأمن وكفالة الحريات أمر يمكن تحقيقه واقعا.
إن التماسك الذى أظهرته مصر فى الفترة الأخيرة من خلال نموذجها للدولة المدنية المرتكزة على القيم الدينية والأخلاقية أفسد كل المحاولات التى سعت للنيل من استقرار البلاد، واستطاعت القفز خطوات تجاه توطيد مفهوم الدولة وفق التصور الإسلامى، متجاوزة العديد من الخطوات والمراحل التى كان من الممكن انتظارها إن تم الاعتماد على التنظيرات الفكرية، والوقوع فى مصايد الجدال والإيرادات والاستدعاءات التاريخية المغلوطة، وبرهنت على عِظَم تأثير الدرس العملى فى الفكر والنفس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة