قبل سنوات فى العقد الأول من الألفية، مع انتشار وشيوع برامج التوك شو وظهور فيس بوك كإحدى منصات التواصل، كانت هناك ظاهرة بعض المحامين أنصاف المعروفين الموكلين فى القضايا، يسعون إلى برامج التوك شو، ليشرحوا وجهات نظرهم ويصنعون رأيا عاما بهدف التأثير على منصة القضاء ولم يكن هؤلاء المحامون يبذلون نصف جهدهم فى الترافع أمام القضاء أو تقديم دفوع. وقد احترف بعض المحامين هذه الطريقة، ونجحوا فى تحقيق شهرة ضاعفت من الموكلين، الذين ذهبوا إلى المشهورين من المحامين ليكتشفوا أن أغلب هؤلاء الأساتذة غير متفرغين، وإنما يركزون جهدهم لتحقيق شهرة من دون أن يطوروا أدواتهم.
وبعد 25 يناير، ظهرت أعداد من المحامين يعلنون تطوعهم فى القضايا التى يعرفون أنها تحظى بتغطية صحفية وفضائية، ومنها محاكمة الرئيس الأسبق مبارك، والتى كان عدد كبير من المحامين ينضمون إليها من دون أن يكون لدى أى منهم أى فكرة، ونفس الأمر فى قضايا الشهداء وغيرهم. وبعض هؤلاء كان مجهولًا حقق شهرة وأصبح محاميًا إعلاميًا ناشطًا «بتاع كله». ونسى ما سبق من قضايا الجماهير.
ومثل المحامين كان هناك زعماء دخلوا للصورة بحثًا عن الكاميرات، والواقع أن برامج توك شو وقنوات ظهرت وقتها ساهمت فى تلميع هواة ومحترفى الأضواء، وهناك قطاع من الرأى العام صدق هؤلاء ومشى وراءهم، قبل أن يكتشف أنهم غير متفرغين للثورة ولا للمرافعة، هدفهم فقط الكاميرات ومساحات التفاعل على السوشيال ميديا. وكثير من هؤلاء كانوا يقولون آراءً على صفحاتهم وحساباتهم، تختلف عن قناعاتهم، أو حتى عن الحقيقة والوقائع والشهادات، وبعض هؤلاء كان يحمل «شخصية مزدوجة»، لأن الشهرة تحتم عليهم تبنى آراءً غير مقنعة لهم، لكنها تجذب إليهم جمهورًا افتراضيًا يدعمهم «باللايكات والريتويت». وتظهرهم فى صورة الأبطال الشجعان.
والمزايدات حالة معروفة فى الممارسات الحزبية والسياسية، وقد انتشرت واتسعت بعد 25 يناير ورأينا تبادل المزايدات بين النشطاء والزعماء، وحرص كل فرد منهم وكل فريق على أن يظهر فى صورة البطل والشجاع، متهمًا الآخرين بالتقاعس والتراجع.
المزايدة تصاعدت وتضخمت مع أدوات التواصل. حيث يحرص بعض النقابيين والمتحزبين أو حتى النواب على التباهى بالمواقف وإعلانها على صفحات التواصل، ونشرها بين مؤيديه، طلبًا للتشجيع والتصفيق. أو تسريب اجتماعات حزبية أو نقابية بهدف المزايدة على الآخرين حتى لو كانوا زملاء.
آخر مثال لهذه الطريقة، ما جرى بين الزملاء فى مجلس نقابة الصحفيين، حيث سارع الزميل هشام يونس بنشر بيان مجلس النقابة قبل الانتهاء من التصويت عليه وأصدر نقيب الصحفيين ضياء رشوان بيانًا يدين فيه تسريب اجتماع أو مواقف داخلية. وصدر بيان النقابة ضد مشروع ترامب وتضمن عبارات إدانة ورفض.
بالطبع لم تكن هناك سوابق لحالة «المرافعة على الهواء» فيما يتعلق بالعمل النقابى، تختلف الآراء فى المناقشات، لكن القرار يصدر واحدًا، لكن الكثير من تقاليد العمل النقابى والسياسى، تضيع وسط حرص كل طرف على الظهور فى صورة البطل الأوحد، أمام جمهور اللايكات، حتى لو كان مجرد كلام. وسبق وأن اندلعت معركة واتهامات وتلاسن على صفحات التواصل، ثم توقفت من دون إعلان عن نتائج.
وهذا مثال من أمثلة كثيرة، على ظواهر أفرزها عصر التوك شو والسوشيال ميديا، تجعل الصورة أهم من الأصل، والدعاية أهم من الحقيقة. والمرافعة أمام الكاميرات أهم من الترافع أمام المنصات.