نواصل قراءتنا مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) وهو مفكر ومؤرخ عراقى له العديد من الكتب من أشهرها كتاب "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، ويعد هذا الكتاب واحدا من الكتب المهمة فى قراءة التاريخ العربى القديم، ويتألف الكتاب من 10 أجزاء أحدها مخصص للفهرس، ويعتبر أضخم عمل أكاديمى فى تاريخ العرب والجزيرة العربية فى فترة ما قبل ظهور الإسلام، ونشر الكتاب فى سنة 1968.
ومن القضايا المهمة التى يناقشها الكتاب من أين يستمد العرب تاريخهم وكيف وثقوا ما وصل إلينا؟ ومن هذه الطرق كانت "التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية".
وفى هذه الجزئية قال جواد على: جاء ذكر العرب فى مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب، والتوراة مجموعة أسفار كتبها جماعة من الأنبياء فى أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها فى فلسطين، وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير، فقد كتب فى وادى الفرات أيام السبى، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "amos"، ويظن أنه كتب حوالى سنة 750 ق. م، وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر "دانيال" "Daniel" والإصحاحان الرابع والخامس من سفر "المزامير". وقد كتب هذه فى القرن الثانى قبل المسيح.
فما ذكر فى التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثانى قبل المسيح، وقد وردت فى التلمود "Talmud" إشارات إلى العرب كذلك، وهناك نوعان من التلمود الفلسطينى أو التلمود الأورشليمى "yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصارًا، والتلمود البابلى نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم باسم "بابلى" اختصارًا.
أما التلمود الفلسطيني فقد وضع، كما يفهم من اسمه، فى فلسطين، وقد تعاونت على تحبيره المدارس اليهودية "academies" فى الكنائس "الكنيس"، وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود فى فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية"، وفى هذا المحل وضع الحبر "رابى يوحان" التلمود الأورشليمى فى أقدم صورة من صوره فى أواسط القرن الثالث الميلادى وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاءوا بعد "يوحنان" وهم الذين وضعوا شروحًا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذى اتخذ هيأته النهائية فى القرن الرابع الميلادي.
وأما التلمود البابلي فقد بدأ بكتابته – على ما يظهر - الحبر "آشي" المتوفى عام 430م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به حتى اكتسب صيغته النهائية فى أوائل القرن السادس للميلاد. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذى وضع فيه، ولذلك يغلب على التلمود الفلسطينى طابع التمسك بالرواية والحديث، وأما التلمود البابلى، فيظهر عليه الطابع العراقى الحر وفيه عمق فى التفكير، وتوسع فى الأحكام والمحاكمات، وغنى فى المادة، وهذه الصفات غير موجودة فى التلمود الفلسطيني.
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشارته من هذه الناحية فى تدوين تأريخ العرب، أما الفترة بين الزمن الذى انتهى فيه من كتابة التوراة والزمن الذى بدأ فيه بكتابة التلمود، فيمكن أن يستعان فى تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التى ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودى "يوسف فلافيوس" الذى عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبًا، وله كتاب باللغة اليونانية فى تأريخ عاديات اليهود تنتهى حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب آخر فى تأريخ حروب اليهود من استيلاء "أنطيوخس أفيفانوس" على القدس سنة 170 قبل الميلاد، إلى الاستيلاء عليها مرة ثانية فى عهد "طيطس" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" و"طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الرومانى.
وفى كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها فى كتاب ما آخر قديم، وكان الأنباط فى أيامه يقطنون فى منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر، وقد عاصرهم هذا المؤرخ، غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط بالعبرانين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط.
هذا وإن للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثًا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة فى تفهم تاريخ الجاهلية، وفى شرح المصطلحات الغامضة التى ترد فى النصوص العربية التى تعود إلى ما قبل الإسلام، لأنها نفسها وبتسمياتها ترد عند العبرانيين فى المعانى التى وضعها الجاهليون لها، وقد استفدت كثيرًا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات فى تفهم أحوال الجاهلية، وفى زيادة معارفى بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد درس أحوال الجاهلية، التوغل فى دارسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.