معلوماتنا عن منطقة العرب قبل الإسلام قليلة جدًا، هى مجرد أمور متناثرة، والسؤال لماذا أهمل المسلمون التأريخ لهذه المرحلة؟ والإجابة نعرفها مع المفكر العربى الكبير "جواد على" فى كتابه "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام".
وجواد على مفكر عراقى (1907- 1987) وكتابه "المفصل فى تاريخ العرب" واحد من الكتب المهمة فى قراءة التاريخ العربى القديم، ويتألف من 10 أجزاء أحدها مخصص للفهرس، ويعتبر أضخم عمل أكاديمى فى تاريخ العرب والجزيرة العربية فى فترة ما قبل ظهور الإسلام، ونشر الكتاب فى سنة 1968.
يقول "جواد على" فى الفصل الثالث تحت عنوان "إهمال التأريخ الجاهلى وإعادة تدوينه" من الأمور التى تثير الأسف، تهاون المؤرخين فى تدوين التأريخ الجاهلى، ولا سيما القسم القديم منه، الذى يبعد عن الإسلام قرنًا فأكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخًا، بعيدٌ فى طبعه وفى مادته عن طبع التواريخ ومادتها، لقد وفق المؤرخون العرب فى كتابة تأريخ الإسلام توفيقًا كبيرًا، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفى رغبتهم فى التمحيص، أما التأريخ الجاهلى، فلم يظهروا مقدرة فى تدوينه، بل قصروا فيه تقصيرًا ظاهرًا، فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى فى هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافية، ولم يُظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التى تخص الجاهلية، فتركوا لنا فجوات وثُغرًا لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن ولا سيما فى تأريخ جزيرة العرب؛ حيث نجد فراغًا واسعًا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التى دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمّد طمس أخبار الجاهلية؟ أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدوّنة فى تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم؛ فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذى وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب؟ أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم؛ فلم يكونوا مثل الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف؛ فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم شيئًا غير هذا الذى رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب فى ذاكرة المعمرين من أخبار.
وتابع "حواد على" لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم أن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية فى الجزيرة العربية بصلة، مستدلًا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"1؛ فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، وإلى محو آثار كل شىء يتفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه الوثنية والأنصاب والأصنام، وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ، فعلوا ذلك كما فعل النصارى فى أوروبة فى أوائل القرن السادس للميلاد؛ فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل، ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضى وحفظ مفاخره، من الذين ينظر إليهم شزرًا فى المجتمع الإسلامي، وخاصة فى العهد الإسلامى الأول.
أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية، وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "أخباري" معنى سيِّئ بل أصبحت صفة تفيد نوعًا من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرأ على البحث فى تأريخ العرب قبل عام الفيل؛ لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب فى ذلك هو انصرافه لدراسة الأشياء التى قرر الإسلام طمسها، أعنى بذلك الديانات والطقوس الوثنية فى بلاد العرب"
ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسطلوا وتحكموا وتجبروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التى انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكأن الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم فى هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم فى هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.